74ـ صفات الراعي العدل
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا أَحْوَجَنَا جَمِيعًا لِأَنْ نَسْتَظِلَّ في ظِلِّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، في يَوْمٍ عَصِيبٍ يَعْظُمُ فِيهِ الخَطْبُ، وَيَشْتَدُّ فِيهِ الكَرْبُ، يَوْمَ تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ في العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إلى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إلى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إلى حِقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا.
رُحْمَاكَ يَا رَبُّ، عَفْوَكَ يَا رَبُّ، لُطْفَكَ يَا رَبُّ.
مَا أَحْوَجَنَا إلى مَسْأَلَةِ العَدْلِ، انْطِلَاقًا مِنَ العَدْلِ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ، إلى العَدْلِ بَيْنَ أَفْرَادِ الرَّعِيَّةِ بِأَكْمَلِهَا، مَا أَحْوَجَنَا إلى مَسْأَلَةِ العَدْلِ مِنْ خِلَالِ كُلِّ رَاعٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَعِيَّةً، كَبِيرَةً كَانَتْ أَو صَغِيرَةً؛ وَلَوْ تَحَقَّقَ العَدْلُ مِنَ الرَّجُلِ الرَّاعِي عَلَى أُسْرَتِهِ لَتَحَقَّقَ العَدْلُ في الأُمَّةِ كُلِّهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الجَوْرُ مِنَ الرَّاعِي عَلَى أُسْرَتِهِ، فَلَا تَسْتَبْعِدُوا الجَوْرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا عَدَاهُ.
صِفَاتُ الرَّاعِي العَدْلِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يَتَعَرَّفَ عَلَى صِفَاتِ الرَّاعِي العَدْلِ، لَعَلَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهَا، لِيَفُوزَ بِنِعْمَةِ الاسْتِظْلَالِ في ظِلِّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، وَخَيْرُ مَنْ يُعَرِّفُنَا عَلَى صِفَاتِ الرَّاعِي العَدْلِ سَلَفُنَا الصَّالِحُ، الذينَ كَانُوا يَبْحَثُونَ عَنْ صِفَاتِهِ حَتَّى يَلْتَزِمُوا بِهَا.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ ذَكَرَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ صِفَاتِ الإِمَامِ العَادِلِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ رَحِمَهُمَا اللهُ تعالى عِنْدَمَا طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَصِفَ لَهُ الإِمَامَ العَادِلَ؛ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يَقُولُ:
اعْلَمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ الإِمَامَ العَدْلَ قِوَامَ كُلِّ مَائِلٍ وَقَصْدَ كُلِّ جَائِرٍ، وَصَلَاحَ كُلِّ فَاسِدٍ، وَقُوَّةَ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَنَصَفَةَ كُلِّ مَظْلُومٍ، وَمَفْزِعَ كُلِّ مَلْهُوفٍ.
وَالإِمَامُ العَدْلُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ كَالرَّاعِي الشَّفِيقِ عَلَى إِبِلِهِ الرَّفِيقِ الذي يَرْتَادُ لَهَا أَطْيَبَ المَرْعَى، وَيَذُودُهَا عَنْ مَرَاتِعِ الهَلَكَةِ، وَيَحْمِيهَا مِنَ السِّبَاعِ يَكُنُّهَا مِنْ أَذَى الحَرِّ وَالقَرِّ.
وَالإِمَامُ العَدْلُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ كَالأَبِ الحَانِي عَلَى وَلَدِهِ، يَسْعَى لَهُمْ صِغَارًا وَيُعَلِّمُهُمْ كِبَارًا، يَكْتَسِبُ لَهُمْ في حَيَاتِهِ وَيَدَّخِرُ لَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِ.
وَالإِمَامُ العَدْلُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ كَالأُمِّ الشَّفِيقَةِ البَرَّةِ الرَّفِيقَةِ بِوَلَدِهَا حَمَلَتْهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَرَبَّتْهُ طِفْلًا تَسْكُنُ بِسُكُونِهِ تُرْضِعُهُ تَارَةً وَتَفْطِمُهُ أُخْرَى وتَفَرْحُ بِعَافِيَتِهِ وَتَهْتَمُّ بشِكَايَتِهِ.
وَالإِمَامُ العَدْلُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مُوصِي اليَتَامَى وَخَازِنُ المَسَاكِينِ يُرَبِّي صَغِيرَهُمْ وَيَمُونُ كَبِيرَهُمْ.
وَالإِمَامُ العَدْلُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ كَالقَلْبِ بَيْنَ الجَوَانِحِ، تَصْلُحُ الجَوَانِحُ بِصَلَاحِهِ وَتَفْسُدُ بِفَسَادِهِ.
وَالإِمَامُ العَدْلُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ هُوَ القَائِمُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ يَسْمَعُ كَلَامَ اللهِ، وَيُسْمِعُهُمْ، وَيَنْظُرُ إلى اللهِ وَيُرِيهِمْ، وَيَنْقَادُ إلى اللهِ وَيَقُودُهُمْ.
فَلَا تَكُنْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ كَعَبْدٍ ائْتَمَنَهُ سَيِّدُهُ وَاسْتَحْفَظَهُ مَالَهُ وَعِيَالَهُ، فَبَدَّدَ المَالَ وَشَرَّدَ العِيَالَ، فَأَفْقَرَ أَهْلَهُ وَفَرَّقَ مَالَهُ.
وَاعْلَمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ الحُدُودَ لِيَزْجُرَ بِهَا عَنِ الخَبَائِثِ وَالفَوَاحِشِ، فَكَيْفَ إِذَا أَتَاهَا مَنْ يَلِيهَا! وَأَنَّ اللهَ أَنْزَلَ القِصَاصَ حَيَاةً لِعِبَادِهِ، فَكَيْفَ إِذَا قَتَلَهُمْ مَنْ يَقْتَصُّ لَهُمْ!
وَاذْكُرْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ المَوْتَ وَمَا بَعْدَهُ، وَقِلَّةَ أَشْيَاعِكَ عِنْدَهُ، وَأَنْصَارِكَ عَلَيْهِ، فَتَزَوَّدْ لَهُ وَلِمَا بَعْدَهُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ.
وَاعْلَمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَنَّ لَكَ مَنْزِلًا غَيْرَ مَنْزِلِكَ الذي أَنْتَ فِيهِ، يَطُولُ فِيهِ ثَوَاؤُكَ، وَيُفارِقُكَ أَحِبَّاؤُكَ، يُسْلِمُونَكَ في قَعْرِهِ فَرِيدًا وَحِيدًا؛ فَتَزَوَّدْ لَهُ مَا يَصْحَبُكَ يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.
وَاذْكُرْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ ﴿إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾. فَالأَسْرَارُ ظَاهِرَةٌ، وَالكِتَابُ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا.
فَالآنَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ عَلَى مَهَلٍ، قَبْلَ حُلُولِ الأَجَلِ، وَانْقِطَاعِ الأَمَلِ.
لَا تَحْكُمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ في عِبَادِ اللهِ بِحُكْمِ الجَاهِلِينَ، وَلَا تَسْلُكْ بِهِمْ سَبِيلَ الظَّالِمِينَ، وَلَا تُسَلِّطِ المُسْتَكْبِرِينَ عَلَى المُسْتَضْعَفِينَ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، فَتَبُوءَ بِأَوْزَارِكَ وَأَوْزَارٍ مَعَ أَوْزَارِكَ، وَتَحْمِلَ أَثْقَالَكَ وَأَثْقًالًا مَعَ أَثْقَالِكَ.
وَلَا يَغُرَّنَّكَ الذينَ يَتَنَعَّمُونَ بِمَا فِيهِ بُؤْسُكَ، وَيَأْكُلُونَ الطَّيِّباتِ في دُنْيَاهُمْ بِإِذْهَابِ طَيِّبَاتِكَ في آخِرَتِكَ.
وَلَا تَنْظُرْ إلى قُدْرَتِكَ اليَوْمَ، وَلَكِنِ انْظُرْ إلى قُدْرَتِكَ غَدًا وَأَنْتَ مَأْسُورٌ في حَبَائِلِ المَوْتِ، وَمَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ في مَجْمَعٍ مِنَ المَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالمُرْسَلِينَ، وَقَدْ عَنَتِ الوُجُوهُ للحَيِّ القَيُّومِ.
إِنِّي يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ أَبْلُغْ بِعِظَتِي مَا بَلَغَهُ أُولُو النُّهَى مِنْ قَبْلِي، فَلَمْ آلُكَ شَفَقَةً وَنُصْحًا، فَأَنْزِلْ كِتَابِيَ إِلَيْكَ كَمُدَاوِي حَبِيبِهِ يَسْقِيهِ الأَدْوِيَةَ الكَرِيهَةَ لِمَا يَرْجُو لَهُ في ذَلِكَ مِنَ العَافِيَةِ وَالصِّحَّةِ.
وَالسَّلَامُ عَلْيَكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
** ** **
تاريخ الكلمة:
يوم السبت: 10/ رمضان / 1444 هـ، الموافق: 1/ نيسان / 2023 م
ارسل إلى صديق |
الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد
مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد
ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد
حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد
وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد
يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد