16ـ معجزة كلام الشجر وانقياده
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ اللهُ تعالى بِهَا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُعْجِزَةُ كَلَامِ الشَّجَرِ وَانْقِيَادِهِ.
مَا مِنْ شَيْءٍ في الوُجُودِ إِلَّا وَيَشْهَدُ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ، وَيَسْتَجِيبُ لِأَمْرِهِ، إِلَّا مَرَدَةُ الإِنْسِ وَالجِنِّ.
وَهَذَا عَارٌ عَلَيْهِمْ، إِنْ كَانَتِ الجَمَادَاتُ وَالأَحْجَارُ وَالأَشْجَارُ تَشْهَدُ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ وَتَسْتَجِيبُ لَهُ، فَهُمْ أَوْلَى بِالاسْتِجَابَةِ، وَخَاصَّةً بَعْدَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
رَوَى الدَّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ تُرِيدُ؟»
قَالَ: إِلى أَهْلِي.
قَالَ: «هَلْ لَكَ فِي خَيْرٍ؟».
قَالَ: وَمَا هُوَ؟
قَالَ: «تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».
فَقَالَ: وَمَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟
قَالَ: «هَذِهِ السَّلَمَةُ».
فَدَعَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بِشَاطِئِ الْوَادِي فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ الْأَرْضَ خَدًّا حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَشْهَدَهَا ثَلَاثًا، فَشَهِدَتْ ثَلَاثًا أَنَّهُ كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مَنْبَتِهَا وَرَجَعَ الْأَعْرَابِيُّ إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: إِنِ اتَّبَعُونِي أَتَيْتُكَ بِهِمْ، وَإِلَّا رَجَعْتُ، فَكُنْتُ مَعَكَ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بِمَ أَعْرِفُ أَنَّكَ نَبِيٌّ؟
قَالَ: «إِنْ دَعَوْتُ هَذَا العِذْقَ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟»
فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَنْزِلُ مِنَ النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعْ فَعَادَ» فَأَسْلَمَ الأَعْرَابِيُّ.
وَرَوَى البَزَّارُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْحَجُونِ فَرَدَّ عَلَيْهِ المُشْرِكُونَ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَرِنِي آيَةً الْيَوْمَ لَا أُبَالِي مَنْ كَذَّبَنِي بَعْدَهَا».
فَأَتَى فَقِيلَ لَهُ: ادْعُ شَجَرَةً، فَدَعَا شَجَرَةً فَأَقْبَلَتْ تَخُطُّ الْأَرْضَ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْهِ فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَهَا فَرَجَعَتْ.
قَالَ دَاوُدُ: إِلَى مَنْبَتِهَا، وَقَالَ عَفَّانُ: إِلَى مَوْضِعِهَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُبَالِي مَنْ كَذَّبَنِي بَعْدَهَا مِنْ قَوْمِي».
إِنْ كَانَتِ الأَشْجَارُ تَشْهَدُ وَتَسْتَجِيبُ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهَا، وَخَاصَّةً قَدْ شَرَّفَنَا اللهُ تعالى بِالتَّكْلِيفِ بِطَاعَتِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعِيَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا﴾.
مِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا أَنْ جَعَلَنَا مِنْ أُمَّةِ الاسْتِجَابَةِ، بِحَيْثُ نَنْسَجِمُ مَعَ هَذَا الوُجُودِ كُلِّهِ، حَيْثُ يُؤْمِنُ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُ، إِلَّا مَرَدَةُ الجِنِّ وَالإِنْسِ.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يَسْتَجِيبُ لِأَمْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، سَوَاءٌ كَانَ الأَمْرُ صَرَاحَةً أَو إِشَارَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ فَرْضًا أَو وَاجِبًا أَو سُنَّةً أَو مُسْتَحَبًّا؛ وَأَنْ لَا نَتَخَلَّفَ عَنْ طَاعَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ طَاعَتَهُ سِرُّ سَعَادَتِنَا دُنْيَا وَأُخْرَى.
وَجَاءَ في مُسْنَدِ الرُّويَانِي عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ يَسْأَلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ هُوَ؟ حَتَّى دُفِعَ إِلَى قَوْمٍ جُلُوسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْنَ النَّبِيُّ فَأَرَوْهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَيْ نَبِيَّ اللهِ، أَتَيْتُكَ فَأُقَبِّلُ؟
قَالَ: «نَعَمْ».
قَالَ: أُقَبِّلُ رِجْلَيْكَ؟
قَالَ: «نَعَمْ».
فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أَتَيْتُكَ مُسْلِمًا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ خَيْرٌ لَكَ»
فَقَالَ: إِنَّهُ عَرَضَ لِي أَمْرٌ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِي وَالْحَمْدُ للهِ أَنْ أَكُونَ فِي شَكٍّ مِنْ شَأْنِي، وَلَكِنِّي قَدْ أَنْكَرْتُ نَفْسِي.
قَالَ: «فَمَا تُرِيدُ؟».
قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تَدْعُوَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ الْخَضْرَاءَ فَتَأْتِيَكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَعَالَيْ يَا شَجَرَةُ».
فَاتَّكَأْتِ الشَّجَرَةُ عَلَى أَصْلِهَا يَمِينًا وَشِمَالًا، ثُمَّ اتَّكَأَتْ حَتَّى قَبَضَتْ عَرُوقَهَا، ثُمَّ اسْتَوَتْ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ تَمْشِي إِلَى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَجُرُّ عَرُوقَهَا وَفَرُوعَهَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بِمَ تَشْهَدِينَ يَا شَجَرَةُ؟».
قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ.
قَالَ: «صَدَقْتِ».
فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأَعْرَابِيِّ فَقَالَ: «مَهْ».
فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ إِلَى مَكَانِهَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للشجرةِ: «ارْجِعِي إِلَى مَكَانِكِ وَكُونِي كَمَا كُنْتِ».
فَرَجَعَتِ الشَّجَرَةُ إِلَى حُفْرَتِهَا ثُمَّ دَلَّتْ عُرُوقَهَا فِي الْحُفْرَةِ فَرَجَعَ كُلُّ عِرْقٍ فِي مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، ثُمَّ الْتَأَمَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي مَا كَانَ عَرَضَ لِي، أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي وَأَهْلِي فَأُخْبِرُهُمُ الْخَبَرَ لَعَلِّي آتِيكَ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ مُؤْمِنِينَ.
قَالَ: «ارْجِعْ فَقَدْ أَذِنْتُ لَكَ».
فَاسْتَثْنَى الْأَعْرَابِيُّ وَلَمْ يَأْلُ.
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَسْجُدُ لَكَ؟
قَالَ: «لَا، إِنَّمَا السَّجْدَةُ للهِ، وَلَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي بِالسُّجُودِ لِغَيْرِ اللهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا».
نَسْتَفِيدُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: أَنَّ إِيمَانَنَا بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ لَنَا، وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَجَلِيلَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا، وَإِذَا كَانَ العَبْدُ يُمْسِي وَيُصْبِحُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ في خَيْرٍ، وَلَو كَانَ يَتَقَلَّبُ عَلَى جَمْرٍ مِنْ نَارِ الابْتِلَاءَاتِ ـ لَا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ.
وَمَنْ حُرِمَ نِعْمَةَ الإِيمَانِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لَيْسَ بِخَيْرٍ، بَلْ هُوَ في شَرٍّ، وَلَو كَانَ يَتَقَلَّبُ بِنِعَمِ الدُّنْيَا كُلِّهَا.
لِذَلِكَ أَقُولُ: يَا أَخِي الكَرِيمُ، إِذَا أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ وَأَنْتَ تَتَقَلَّبُ بِنِعْمَةِ الإِيمَانِ فَأَنْتَ بِخَيْرٍ، وَإِنْ سُئِلْتَ: كَيْفَ حَالُكَ؟ فَقُلْ: بِخَيْرٍ وَللهِ الحَمْدُ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَتَأَفَّفَ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا، فَهِيَ خَيْرٌ للمُؤْمِنِ، فَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا لِمَنْ أَحَبَّ وَلِمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ لَيُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ أَحَبِّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ أَحَبِّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ».
اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ عَلَى نِعْمَةِ الإِيمَانِ، وِنِعْمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَأَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ النَّاطِقِينَ بِهِمَا عِنْدَ الغَرْغَرَةِ. آمين.
وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ (وَاسِعًا) فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ، فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِحْدَاهُمَا، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ».
فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ المَخْشُوشِ، الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ (هُوَ البَعِيرُ الذي يُجْعَلُ في أَنْفِهِ عُودٌ، وَيُشَدُّ فِيهِ حَبْلٌ لِيَنْقَادَ البَعِيرُ إِذَا كَانَ صَعْبًا، فَإِذَا شُدَّ عَلَيْهِ وَأَلَّمَهُ نَزْعُ العُودِ انْقَادَ مَعَ صَاحِبِهِ) حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الْأُخْرَى، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ».
فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا (أَيْ: نِصْفَ المَسَافَةِ) لَأَمَ بَيْنَهُمَا ـ يَعْنِي جَمَعَهُمَا ـ فَقَالَ: «الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» فَالْتَأَمَتَا.
قَالَ جَابِرٌ: فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ (أَجْرِي جَرْيًا سَرِيعًا) مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِي فَيَبْتَعِدَ ـ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ ـ فَيَتَبَعَّدَ فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي، فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ (أَيْ: نَظْرَةٌ وَالْتِفَاتَةٌ) فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلًا، وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدِ افْتَرَقَتَا، فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ وَقْفَةً، فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا ـ وَأَشَارَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ بِرَأْسِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا ـ ثُمَّ أَقْبَلَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيَّ قَالَ: «يَا جَابِرُ، هَلْ رَأَيْتَ مَقَامِي؟».
قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «فَانْطَلِقْ إِلَى الشَّجَرَتَيْنِ فَاقْطَعْ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا، فَأَقْبِلْ بِهِمَا، حَتَّى إِذَا قُمْتَ مَقَامِي فَأَرْسِلْ غُصْنًا عَنْ يَمِينِكَ وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِكَ».
قَالَ جَابِرٌ: فَقُمْتُ فَأَخَذْتُ حَجَرًا فَكَسَرْتُهُ وَحَسَرْتُهُ (يَعْنِي: كَسَرَ الحَجَرَ، ثُمَّ أَزَالَ عَنْهُ كُلَّ مَا تَشَظَّى وَتَكَسَّرَ مِنْهُ، حَتَّى صَارَ حَادًّا يُمكِنُ بِهِ القَطْعُ) فَانْذَلَقَ لِي، فَأَتَيْتُ الشَّجَرَتَيْنِ فَقَطَعْتُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غُصْنًا، ثُمَّ أَقْبَلْتُ أَجُرُّهُمَا حَتَّى قُمْتُ مَقَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَرْسَلْتُ غُصْنًا عَنْ يَمِينِي وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِي، ثُمَّ لَحِقْتُهُ، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، يَا رَسُولَ اللهِ فَعَمَّ ذَاكَ؟
قَالَ: «إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ، فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا، مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ».
قَالَ: فَأَتَيْنَا الْعَسْكَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا جَابِرُ، نَادِ بِوَضُوءٍ».
فَقُلْتُ: أَلَا وَضُوءَ؟ أَلَا وَضُوءَ؟ أَلَا وَضُوءَ؟
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا وَجَدْتُ فِي الرَّكْبِ مِنْ قَطْرَةٍ، وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُبَرِّدُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْمَاءَ فِي أَشْجَابٍ لَهُ (يَعْنِي: أَسْقِيَةً وَقُرَبَ مَاءٍ بَالِيَةً يَابِسَةً) عَلَى حِمَارَةٍ مِنْ جَرِيدٍ (يَعْنِي: أَعْوَادًا مِنْ جَرِيدٍ تُعَلَّقُ عَلَيْهَا الأَشْجَابُ) قَالَ: فَقَالَ لِيَ: «انْطَلِقْ إِلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَانْظُرْ هَلْ فِي أَشْجَابِهِ مِنْ شَيْءٍ؟».
قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ فَنَظَرْتُ فِيهَا فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا قَطْرَةً فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ مِنْهَا (أَيْ: فَمِهِ وَمَخْرَجِ المَاءِ مِنْهُ) لَوْ أَنِّي أُفْرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلَّا قَطْرَةً فِي عَزْلَاءِ شَجْبٍ مِنْهَا، لَوْ أَنِّي أُفْرِغُهُ لَشَرِبَهُ يَابِسُهُ (أَيْ: لِقِلَّةِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ المَاءِ، وَفَرْطِ يَبْسِ الشَّجْبِ).
قَالَ: «اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهِ» فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَيَغْمِزُهُ بِيَدَيْهِ (أَيْ: يُحَرِّكُهُ وَيَعْصِرُهُ) ثُمَّ أَعْطَانِيهِ، فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، نَادِ بِجَفْنَةٍ».
فَقُلْتُ: يَا جَفْنَةَ الرَّكْبِ (أَيْ: يَا صَاحِبَ جَفْنَةِ الرَّكْبِ) فَأُتِيتُ بِهَا تُحْمَلُ، فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فِي الْجَفْنَةِ هَكَذَا، فَبَسَطَهَا وَفَرَّقَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ وَضَعَهَا فِي قَعْرِ الْجَفْنَةِ، وَقَالَ: «خُذْ يَا جَابِرُ فَصُبَّ عَلَيَّ، وَقُلْ بِاسْمِ اللهِ».
فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ: بِاسْمِ اللهِ، فَرَأَيْتُ المَاءَ يَتَفُوَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ فَارَتِ الجَفْنَةُ وَدَارَتْ حَتَّى امْتَلَأَتْ، فَقَالَ: «يَا جَابِرُ، نَادِ مَنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِمَاءٍ».
قَالَ: فَأَتَى النَّاسُ فَاسْتَقَوْا حَتَّى رَوُوا، قَالَ: فَقُلْتُ: هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ لَهُ حَاجَةٌ؟ فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ مِنَ الْجَفْنَةِ وَهِيَ مَلْأَى.
وَشَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْجُوعَ، فَقَالَ: «عَسَى اللهُ أَنْ يُطْعِمَكُمْ».
فَأَتَيْنَا سِيفَ الْبَحْرِ فَزَخَرَ الْبَحْرُ زَخْرَةً، فَأَلْقَى دَابَّةً، فَأَوْرَيْنَا عَلَى شِقِّهَا النَّارَ، فَاطَّبَخْنَا وَاشْتَوَيْنَا، وَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا.
قَالَ جَابِرٌ: فَدَخَلْتُ أَنَا وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، حَتَّى عَدَّ خَمْسَةً، فِي حِجَاجِ عَيْنِهَا (هُوَ عَظْمُهَا المُسْتَدِيرُ) مَا يَرَانَا أَحَدٌ، حَتَّى خَرَجْنَا، فَأَخَذْنَا ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَقَوَّسْنَاهُ (أَيْ: رَكَزْنَاهُ عَلَى صُورَةِ القَوْسِ) ثُمَّ دَعَوْنَا بِأَعْظَمِ رَجُلٍ فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ جَمَلٍ فِي الرَّكْبِ، وَأَعْظَمِ كِفْلٍ فِي الرَّكْبِ (الكِفْلُ: الكِسَاءُ الذي يَحْوِيهِ رَاكِبُ البَعِيرِ عَلَى سَنَامِهِ لِئَلَّا يَسْقُطَ) فَدَخَلَ تَحْتَهُ مَا يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ.
مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
أَوَلًا: سَتْرُ العَوْرَةِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا مِنَ النَّاسِ، وَكَشْفُهَا مِمَّا يَأْبَاهُ العُقَلَاءُ، فَكَيْفَ بِالمُسْلِمِ الذي أَنْزَلَ اللهُ تعالى عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾.
وَسَتْرُ العَوْرَةِ خَاصٌّ بِعَالَمِ الإِنْسِ عَنْ سَائِرِ العَوَالِمِ؛ جَمِيعُ البَهَائِمِ وَالحَيَوَانَاتِ لَا تَسْتُرُ عَوْرَاتِهَا، بَلْ هِيَ مَكْشُوفَةٌ، فَهَلْ يَلِيقُ بِالرَّجُلِ المُسْلِمِ وَالمَرْأَةِ المُسْلِمَةِ أَنْ يَكْشِفَا عَوْرَتَهُمَا؟
سَيِّدُنَا آدَمُ وَالسَّيِّدَةُ حَوَّاءُ عِنْدَمَا خَالَفَا أَمْرَ اللهِ تعالى، هَتَكَ عَنْهُمَا السِّتْرَ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.
فَمُخَالَفَةُ أَوَامِرِ اللهِ تعالى سَبَبٌ لِهَتْكِ السَّتْرِ عَنِ العَاصِي، وَلَوْلَا السَّيِّئَاتُ وَالمُخَالَفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ، مَا كُشِفَتْ عَوْرَةُ مُؤْمِنٍ ولَا مُؤْمِنَةٍ، فَكَاشِفُ العَوْرَةِ فَضَحَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، حَيْثُ أَعْلَنَ بِحَالِهِ دُونَ قَالِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ يَجْتَرِئُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَوَامِرِ اللهِ تعالى، وَلَوْلَا المُخَالَفَاتُ لَمَا هُتِكَ عَنْهُ السِّتْرَ، وَلَمَا كُشِفَتْ عَوْرَتُهُ. وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ.
هَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا ذَهَبَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَلَمْ يَجِدْ مَا يَسْتَتِرُ بِهِ أَخَذَ غُصْنَيْنِ لِيَسْتَتِرَ بِهِمَا عِنْدَ قَضَاءَ حَاجَتِهِ.
ثَانِيًا: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ». تَعْلِيمٌ لَنَا أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ يَنْقَادُ للإِنْسَانِ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ تعالى، فَالسَّعِيدُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ تعالى بَعْدَ الأَخْذِ بالأَسْبَابِ، وَعَلِمَ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ انْقِيَادَ كُلِّ شَيْءٍ للإِنْسَانِ هُوَ بِإِذْنٍ مِنَ اللهِ تعالى؛ فَمَنْ أُكْرِمَ بِخَارِقَةٍ مِنَ الخَوَارِقِ لِيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنَ الوُقُوعِ في العُجْبِ وَالغُرُورِ.
ثَالِثًا: نَتَعَلَّمُ مِنْ سَيِّدِنَا جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيْنَا طَاعَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ طَاعَةً مُطْلَقَةً، عَرَفْنَا العِلَّةَ أَمْ لَمْ نَعْرِفْهَا، عَرَفْنَا الغَايَةَ أَمْ لَمْ نَعْرِفْهَا، عِنْدَمَا أَمَرَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضَعَ غُصْنًا عَنْ يَمِينِهِ، وَغُصْنًا عَنْ يَسَارِهِ في المَكَانِ الذي رَأَى فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾. وَلِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾.
وَلَا مَانِعَ أَنْ يَسْأَلَ الإِنْسَانُ بَعْدَ امْتِثَالِ الأَمْرِ عَنِ العِلَّةِ وَالغَايَةِ مِنَ الأَمْرِ.
رَابِعًا: نَتَعَلَّمٌ مِنْ خِلَالِ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ أَنَّ نَعِيمَ القَبْرِ وَعَذَابَهُ حَقٌّ، وَإِنْكَارَهُ فِيهِ خُطُورَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى إِيمَانِ العَبْدِ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِنَصِّ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَبِالأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ.
قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.
وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾.
وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾.
وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ».
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ».
قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.
فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ».
قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.
وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ».
عَالَمُ البَرْزَخِ عَالَمٌ غَيْبِيٌّ يَتَوَقَّفُ الإِيمَانُ بِهِ مِنْ خِلَالِ النَّبَأِ الصَّادِقِ، مِنْ خِلَالِ القُرْآنِ العَظِيمِ، والسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ، وَهُوَ عَالَمٌ أَوْسَعُ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا، فِيهِ كُلُّ مَنْ سَبَقَنَا إِلَيْهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ حَيَاةً لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا إِلَّا اللهُ تعالى.
خَامِسًا: نَتَعَلَّمُ مِنْ خِلَالِ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ المُحَافَظَةَ عَلَى الوُضُوءِ بَعْدَ الحَدَثِ، لِيَكُونَ المُسْلِمُ عَلَى طَهَارَةٍ دَائِمًا، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ».
فَالمُحَافَظَةُ عَلَى الوُضُوءِ مِنْ عَلَامَاتِ الإِيمَانِ، وَمَنْ حَافَظَ عَلَى الوُضُوءِ عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ فَقَدْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الخَيْرِ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ قَالَ: أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِلَالًا فَقَالَ: «يَا بِلَالُ، بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الجَنَّةِ؟ مَا دَخَلْتُ الجَنَّةَ قَطُّ إِلَّا سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، دَخَلْتُ البَارِحَةَ الجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، فَأَتَيْتُ عَلَى قَصْرٍ مُرَبَّعٍ مُشْرِفٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا القَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنَ العَرَبِ، فَقُلْتُ: أَنَا عَرَبِيٌّ، لِمَنْ هَذَا القَصْرُ؟ قَالُوا لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: أَنَا قُرَشِيٌّ، لِمَنْ هَذَا القَصْرُ؟ قَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَنَا مُحَمَّدٌ، لِمَنْ هَذَا القَصْرُ؟ قَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ».
فَقَالَ بِلَالٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَذَّنْتُ قَطُّ إِلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهَا وَرَأَيْتُ أَنَّ للهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بِهِمَا».
وَمَنْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى طَهَارَةِ الجَسَدِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى طَهَارَةِ القَلْبِ، لِأَنَّ طَهَارَةَ القَلْبِ أَهَمُّ مِنْ طَهَارَةِ الجَسَدِ.
وَأَمَّا مَا دَرَجَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ: مَنْ أَحْدَثَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ فَقَدْ جَفَانِي، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُصَلِّ فَقَدْ جَفَانِي، وَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَدْعُنِي فَقَدْ جَفَانِي، وَمَنْ دَعَانِي فَلَمْ أُجِبْهُ فَقَدْ جَفَوْتُهُ، وَلَسْتُ بِرَبٍّ جَافٍّ. فَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ. هذا، والله تعالى أعلم.
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِرُؤْيَةِ هَذَا الحَبِيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الجمعة: 7/ محرم /1444هـ، الموافق: 5/ آب / 2022م
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، قَالَ: ... المزيد
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: أَللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا ... المزيد
مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مَا رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ ... المزيد
مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، إِخْبَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِحْدَى نِسَائِهِ أَنَّهَا ... المزيد
مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ حَبِيبَهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ... المزيد
مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ بِهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، سَلَامَتُهُ مِنَ السُّمِّ المُهْلِكِ لِغَيْرِهِ، وَإِعْلَامُ اللهِ تعالى لَهُ أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ، ... المزيد