898ـ خطبة الجمعة: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾

898ـ خطبة الجمعة: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾

898ـ خطبة الجمعة: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِ الظُّلْمِ وَشُؤْمِهِ أَنَّ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ نَفَاهُ عَنْ ذَاتِهِ القُدْسِيَّةِ، وَحَرَّمَهُ عَلَى ذَاتِهِ العَلِيَّةِ، قَالَ تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.

وَيَقُولُ تعالى في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

وَكَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِاللهِ تعالى مِنَ الظُّلْمِ كُلَّمَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ، فَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ، أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ، أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ، أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

عَوَاقِبُ الظُّلْمِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: عَوَاقِبُ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ جِدًّا، مِنْ جُمْلَتِهَا:

أَوَّلًا: الظَّالِمُ أَحْرَى النَّاسِ بِلَعْنَةِ اللهِ تعالى وَنَارِهِ، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾.

ثَانِيًا: الظَّالِمُ لَا يُحِبُّهُ اللهُ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾.

ثَالِثًا: دَعْوَةِ المَظْلُومِ تُصِيبُ الظَّالِمَ وَمَالَهُ وَمَا يَمْلِكُ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ: «اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ».

رَابِعًا: سَوْفَ يُبْصِرُ الظَّالِمُ الخَبَرَ اليَقِينَ عِنْدَ المَوْتِ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾. تَقَطَّعَتِ العَلَاقَاتُ بِالخَلَائِقِ، وَوَقَفَ الظَّالِمُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى.

خَامِسًا: خَيْبَةُ وَخَسَارَةُ الظَّالِمِ يَوْمَ الحَسْرَةِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الحَسْرَةِ؟ قَالَ تعالى: ﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ﴾. مَا يَوْمُ الحَسْرَةِ؟ قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾.

مَا الذي يَحْصُلُ في ذَاكَ اليَوْمِ؟ اسْمَعْ كَلَامَ رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾.

تَصَوَّرْ هَذَا اليَوْمَ العَصِيبَ، تُنْسَفُ الجِبَالُ مِنْ أَصْلِهَا نَسْفًا، وَتُصْبِحُ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَتُصْبِحُ الأَرْضُ مَلْسَاءَ مُسْتَوِيَةً (القَاعُ مَا انْبَسَطَ مِنَ الأَرْضِ، وَالصَّفْصَفُ الأَمْلَسُ) لَا عِوَجَ فِيهَا (يَعْنِي لَا مُنْخَفَضَ فِيهَا) وَلَا أَمْتًا (لَيْسَ فِيهَا نَاشِزٌ مُرْتَفِعٌ).

في ذَاكَ اليَوْمِ العَصِيبِ الكُلُّ يَتَّبِعُ الدَّاعِيَ إلى مَوْقِفِ الحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالعَرْضِ عَلَى اللهِ تعالى، وَلَا عِوَجَ لِدُعَائِهِ، بَلْ يَتَّبِعُونَهُ سِرَاعًا، وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَذَلَّتْ وَسَكَنَتْ وَخَضَعَتْ، وَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا.

في ذَلِكَ اليَوْمِ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا، وَالحَقُّ يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا قَدَّمُوا وآثَارَهُمْ، وَذَلَّتِ الوُجُوهُ للحَيِّ القَيُّومِ ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ الذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَا تَسْتَقِيمُ حَيَاتُنَا إِلَّا بِالإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَبِاليَوْمِ الآخِرِ، تَذَكَّرُوا جَمِيعًا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾.

وَقَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنَا مِنَ الظَّالِمِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 30/ جمادى الآخرة /1445هـ، الموافق: 12/ كانون الثاني / 2024م

 2024-01-12
 3699
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

04-07-2025 142 مشاهدة
946ـ خطبة الجمعة: تفرسوا وجوه الناس

أَعْظَمُ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلْخَيْرِ، بَلْ لِكُلِّ خَيْرٍ، البِرُّ وَالإِحْسَانُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ أَعْظَمَ الأَسْبَابِ الجَالِبَةِ لِلـشَّرِّ، بَلْ وَلِكُلِّ شَرٍّ، الإِسَاءَةُ إِلَى خَلْقِ اللهِ تَعَالَى، فَمَا ... المزيد

 04-07-2025
 
 142
25-06-2025 454 مشاهدة
945ـ خطبة الجمعة: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾

لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد

 25-06-2025
 
 454
19-06-2025 822 مشاهدة
944ـ خطبة الجمعة: وقفة تساءل وتأمل

لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد

 19-06-2025
 
 822
12-06-2025 984 مشاهدة
943ـ خطبة الجمعة: هل تشعر بآلام الآخرين؟

لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد

 12-06-2025
 
 984
04-06-2025 403 مشاهدة
942ـ خطبة الجمعة: ماذا نقول لإخوتنا في غزة أيام العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد

 04-06-2025
 
 403
04-06-2025 315 مشاهدة
941ـ خطبة عيد الأضحى 1446هـ: المغزى الحقيقي من العيد

مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى المَغْزَى الحَقِيقِيِّ فِي العِيدِ، وَعَلَى الأَثَرِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ مِنْهُ، فَالعِيدُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ بِأَنْ يَتَحَلَّى أَحَدُنَا بِالجَدِيدِ، إِنَّمَا يَكُونُ ... المزيد

 04-06-2025
 
 315

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3235
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424724470
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :