909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَتَجْعَلُهُ مِنْ أَشْقَى خَلْقِ اللهِ تعالى في الدُّنْيَا وَمِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ مَا حُرِمَ خَيْرَاتِ شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُفَرِّطًا في جَنْبِ اللهِ، إِلَّا مَنْ كَانَ غَارِقًا في مُسْتَنْقَعِ الشَّهَوَاتِ وَالمُخَالَفَاتِ وَالمَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَهَذَا أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ، لِأَنَّ جَزَاءَ الحَسَنَةِ التَّوْفِيقُ لِحَسَنَةٍ بَعْدَهَا، وَعُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ الخِذْلَانُ حَتَّى يَقَعَ في سَيِّئَةٍ تَتْلُوهَا وَتَكُونُ بَعْدَهَا.
تَعْزِيَةٌ لِمَنْ أُصِيبَ بِدِينِهِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: أَتَوَجَّهُ بِالتَّعْزِيَةِ لِمَنْ أُصِيبَ في دِينِهِ فَتَرَكَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَلَمْ يَصْطَلِحْ مَعَ اللهِ تعالى، لِأَقُولَ لَهُ:
أَوَّلًا: يَا أَيُّهَا الأَخُ الكَرِيمُ، جَبَرَ اللهُ مُصَابَكَ في دِينِكَ، وَلَكِنْ لِتَعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَنْتَهِ بِانْتِهَاءِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمَا زَالَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ عُمُرِكَ فَاغْتَنِمْهَا بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».
ثَانِيًا: يَا أَيُّهَا الأَخُ الكَرِيمُ، أَلَا تُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ تعالى لَكَ ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؟ فَهَلُمَّ في كُلِّ لَيْلَةٍ في ثُلُثِهَا الأَخِيرِ، إِلَى الوُقُوفِ بَينَ يَديِ اللهِ وَمُنَاجَاتِهِ، وَالانْطِرَاحِ فِي عَتَبَاتِهِ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وَمَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ».
إِنْ فَاتَكَ الصِّيَامُ، وَكَانَتْ للصَّائِمِ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَهَذَا السَّحَرُ يَنْتَظِرُكَ للاصْطِلَاحِ مَعَ اللهِ تعالى.
ثَالِثًا: يَا أَيُّهَا الأَخُ الكَرِيمُ، إِنْ فَاتَكَ شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، وَضَيَّعْتَ الفُرْصَةَ في شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَنْ يَفُوتَكَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ قَدِيمٌ بَاقٍ، وَهُوَ مَعَكَ عَلَى الدَّوَامِ، قَالَ تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾. وَيُنَادِيكَ بِبَيَانٍ وَاضِحٍ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
وَيَقُولُ لَكَ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَفي رِوَايَةٍ للتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا بْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا بْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا بْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».
وَيُبَشِّرُكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَفي رِوَايَةٍ للتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ».
رَابِعًا: يَا أَيُّهَا الأَخُ الكَرِيمُ، إِذَا انْتَهَى شَهْرُ رَمَضَانَ بِطَاعَاتِهِ المُتَنَوِّعَةِ، فَمِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا أَنَّهُ جَعَلَ لَنَا بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ مَوَاسِمَ كَثِيرَةً للطَّاعَاتِ، مِنْهَا صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَعَشْرُ ذِي الحِجَّةِ، وَمَوْسِمُ الحَجِّ، وَشَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ حَيْثُ الصِّيَامُ فِيهِ يُحِبُّهُ اللهُ تعالى.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
في الخِتَامِ أَقُولُ لَكَ: يَا أَيُّهَا الأَخُ الكَرِيمُ، لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ، لَا تَخَفْ مِمَّا هُوَ آتٍ، وَلَا تَحْزَنْ عَلَى مَا فَاتَ إِنْ صَدَقْتَ بِتَوْبَتِكَ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ تعالى يَفْرَحُ بِتَوْبَتِكَ إِنْ تُبْتَ إِلَيْهِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ».
يَا أَيُّهَا الأَخُ الكَرِيمُ، قُلْ: قَدَّرَ اللُهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وَتَعَلَّمْ مِنْ أَخْطَائِكَ المَاضِيَةِ، وَاتْرُكْ قُرَنَاءَ السُّوءِ، وأَبْشِرْ بِقَبُولِ اللهِ تعالى لَكَ إِنْ أَقْبَلْتَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ تعالى بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، تَضَرَّعْ إلى اللهِ وَأَكْثِرِ الدُّعَاءَ وَالاسْتِغْفَارَ، وَأَبْشِرْ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّدَمَ تَوْبَةٌ.
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 3/ شوال /1445هـ، الموافق: 12/ نيسان / 2024م
ارسل إلى صديق |
إِنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الأَدَبِ الأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى، بَلْ هُوَ أَصْلُ كُلِّ أَدَبٍ، وَالأَدَبُ مَعَ اللهِ تعالى هُوَ حُسْنُ الانْقِيَادِ لِأَوَامِرِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مَعَ تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ وَالحَيَاءِ مِنْهُ تَبَارَكَ وتعالى. ... المزيد
لَقَدْ جَاءَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِرِسَالَةٍ مِنْ عِنْدِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ تعالى لِخَلْقِهِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نَتَأَدَّبُ مَعَ حَبِيبِهِ ... المزيد
مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِتَدَبُّرٍ وَإِنْصَافٍ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ يَدْعُو جَمِيعَ العُقَلَاءِ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ إلى الأَدَبِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ... المزيد
العَارُ كُلُّ العَارِ أَنْ لَا يَعْرِفَ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ عَرَفَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ لَمْ يَرْتَبْ وَلَمْ يَشُكَّ في صِدْقِهِ وَفي صِدْقِ مَا جَاءَ ... المزيد
لَقَدْ وَهَبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ البَشَرِيَّةَ حَيَاةَ سَعَادَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ، وَرُوحًا نَاضِرَةً، وَذَلِكَ بِظُهُورِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا ... المزيد
العُلَمَاءُ العَامِلُونَ الرَّبَّانِيُّونَ نُجُومٌ جَعَلَهُمُ اللهُ تعالى هِدَايَةً لِمَنْ أَرَادَ سَلَامَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، العُلَمَاءُ العَامِلُونَ هُمْ شُهَدَاءُ اللهِ المَرْضِيُّونَ، أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ مَشْهُودٍ ... المزيد