877ـ خطبة الجمعة: ذكر الله عز وجل هو غاية الحج
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ شَأْنُهُ عَظِيمٌ، وَمَنْزِلَتُهُ عَالِيَةٌ في الدِّينِ، فَمَا تَقَرَّبَ المُتَقَرِّبُونَ مِنْ حَضْرَةِ مَوْلَانَا إِلَّا بِهِ، وَمَا شُرِعَتِ العِبَادَاتُ كُلُّهَا إِلَّا لِأَجْلِهِ، قَالَ تعالى: ﴿فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾.
وَالصَّلَاةُ هِيَ عَمُودُ الدِّينِ، وَقَالَ تعالى آمِرًا عِبَادَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾. وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾.
ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ غَايَةُ الحَجُّ:
يَا عِبَادَ اللهِ: مُلَازَمَةُ ذِكْرِ اللهِ تعالى دَائِمًا وَفي سَائِرِ الأَحْوَالِ هَذَا مِنْ سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ.
كَيْفَ لَا يَكُونُ هَذَا مِنْ سِيرَتِهِ العَطِرَةِ، وَهُوَ القَائِلُ: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ».
قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ»؟
قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: «ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى».
يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ العِبَادَةُ العَظِيمَةُ تَظْهَرُ غَايَةَ الظُّهُورِ في فَرِيضَةِ الحَجِّ، ذَلِكُمْ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ المَقْصُودُ الأَعْظَمُ في الحَجِّ، فَمَا شُرِعَ الطَّوَافُ بِالبَيْتِ العَتِيقِ، وَلَا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَلَا رَمْيُ الجِمَارِ، وَلَا إِرَاقَةُ الدِّمَاءِ، إِلَّا لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾.
وَقَالَ تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾.
وَقَالَ تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾.
يَا عِبَادَ اللهِ: الذِّكْرُ مَنْشُورُ الوِلَايَةِ، مَنْ أُعْطِيَهُ اتَّصَلَ، وَمَنْ حُرِمَهُ انْفَصَلَ، وَهُوَ قُوتُ القُلُوبُ، مَنْ تَرَكَهُ صَارَ جَسَدُهُ قَبْرًا لِقَلْبِهِ، وَهُوَ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ عِمَارَةِ البُيُوتِ، وَسَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الشِّفَاءِ مِنَ الأَسْقَامِ، وَرَحْمَةُ اللهِ تعالى على مَنْ قَالَ:
إِذَا مَرِضْنَا تَدَاوَيْنَا بِذِكْرِكُمُ *** وَنَتْرُكُ الذِّكْرَ أَحْيَانًا فَنَنْتَكِسُ
فَالذِّكْرُ زَيَّنَ اللهُ تعالى بِهِ أَلْسِنَةَ الذَّاكِرِينَ، كَمَا زَيَّنَ بِالنُّورِ أَبْصَارَ النَّاظِرِينَ.
وَيَكْفِي الذَاكِرَ شَرَفًا أَنَّ اللهَ تعالى يَذْكُرُهُ، وَهُوَ جَلِيسُهُ، قَالَ تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾.
وَقَالَ تعالى في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَهَذَا سَيِّدُنَا مُعُاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَسْأَلُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
قَالَ: «أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: لِنُحَافِظْ عَلَى ذِكْرِ اللهِ تعالى صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَمِنْ ذِكْرِ اللهِ تعالى الاسْتِغْفَارُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مِئَةَ مَرَّةٍ.
وَاسْمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ إلى بِشَارَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِئَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِئَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ».
وَللهِ دَرُّ القَائِلِ:
وَاللَه مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ *** إِلَّا وَحُـبُّكَ مَـقْرُونٌ بِأَنْفَاسِي
وَلَا جَلَسْــتُ إِلَى قَــوْمٍ أُحَـدِّثُهُمْ *** إِلَّا وَأَنْتَ حَدِيثِي بَيْنَ جُلَّاسِي
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِينَ، وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الغَافِلِينَ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 25/ ذو الحجة /1444هـ، الموافق: 14/ تموز / 2023م
ارسل إلى صديق |
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدِ اعْتَادَ شَيَاطِينُ الإِنْسِ الذينَ دَارُوا في فَلَكِ شَيَاطِينِ الجِنِّ عَلَى التَّسَتُّرِ وَرَاءَ شِعَارَاتٍ بَرَّاقَةٍ وَاهِيَةٍ، تَبْدُو في ظَاهِرِهَا مَعْقُولَةً وَجَمِيلَةً وَحَسَنَةً، يُلْقِي ... المزيد
إِنَّ مَعْرَكَةَ الإِسْلَامِ مَعَ الكُفْرِ لَيْسَتْ وَلِيدَةَ اليَوْمِ، بَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ مُنْذُ أَنْ وُجِدَ الإِنْسَانُ، وَلَنْ يَخْلُوَ زَمَانٌ وَلَا مَكَانٌ مِنْ تِلْكَ المَعْرَكَةِ الضَّارِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ النُّورَ الذي جَاءَ بِهِ سَيِّدُنَا ... المزيد
إِنَّ مَعْرَكَةَ الإِسْلَامِ مَعَ الكُفْرِ لَيْسَتْ وَلِيدَةَ اليَوْمِ، بَلْ هِيَ قَدِيمَةٌ مُنْذُ أَنْ وُجِدَ الإِنْسَانُ، وَلَنْ يَخْلُوَ زَمَانٌ وَلَا مَكَانٌ مِنْ تِلْكَ المَعْرَكَةِ الضَّارِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ النُّورَ الذي جَاءَ بِهِ سَيِّدُنَا ... المزيد
يَا مَنْ أَسْعَدَكُمُ اللهُ تعالى بِالإِيمَانِ، وَشَرَحَ صُدُورَكُمْ للإِسْلَامِ، اعْلَمُوا أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ لَكُمْ مِيرَاثًا، إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ نِلْتُمْ مَا نَالَهُ ... المزيد
لَقَدْ شَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا تَكُونَ حَياَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ طَوِيلَةً، فَكَانَتِ الأَرْبَعُونَ عَامًا مِنْهَا تَهْيِئَةً رَبَّانِيَّةً للمُهِمَّةِ العَظِيمَةِ ... المزيد
في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ يَتَجَدَّدُ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ حُبُّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي هُوَ أَصْلُ شَرَفِنَا وَمَصْدَرُ فَخْرِنَا وَعِزِّنَا في هَذَا العَالَمِ. نَعَمْ، ... المزيد