22ـ مع الحبيب المصطفى: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم

22ـ مع الحبيب المصطفى: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم

 

مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

22ـ ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيها الإخوةُ الكرام: الغِنَى غِنَى القَلبِ، والفَقرُ فَقرُ القَلبِ، هَذهِ حَقِيقَةٌ يَجِبُ أن تكونَ ماثِلَةً أمامَ الأعيُنِ، وخَاصَّةً في هَذهِ الأَزمَةِ التي يَمُرُّ بها بَلَدُنا الحبيبُ.

أخرج الحاكم عن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أتَرَى كَثرَةَ المالِ هوَ الغِنى؟»

قُلْتُ: نَعَمْ.

قال: «وَتَرَى أنَّ قِلَّةَ المالِ هوَ الفَقرُ؟»

قُلْتُ : نَعَمْ يا رسولَ الله.

قال: «ليسَ كذلكَ، إنَّما الغِنَى غِنَى القلبِ، والفَقرُ فَقرُ القلبِ».

ثمَّ سَألَني رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عن رَجُلٍ من قُرَيشٍ فقال: «فَكَيفَ تَراهُ؟»

قُلتُ: إذا سَأَلَ أُعطِيَ، وإذا حَضَرَ دَخَلَ.

قال: ثمَّ سَألَني عن رَجُلٍ من أهلِ الصُّفَّةِ فقال: «هل تَعرِفُ فلاناً؟».

قُلتُ: لا يا رسولَ الله.

قال: فما زالَ يُحَلِّيهِ ويَنعَتُهُ حتَّى عَرَفتُهُ.

قال: قُلتُ: نَعَمْ يا رسولَ الله.

قال: «فَكَيفَ تَراهُ؟».

قُلتُ: رَجُلٌ مِسكينٌ من أهلِ المسجِدِ.

قال: «هوَ خَيرٌ من طِلاعِ الأرضِ مِثلُ الآخَرِ».

قُلتُ: يا رسولَ الله أفلا يُعطَى من بعضِ ما يُعطَى الآخَرُ؟

قال: «إن يُعطَ فهوَ أهلُهُ، وإن يُصرَف عنهُ فقد أُعطِيَ حَسَنَةً».

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: غِنَى القَلبِ، وفَقرُ القَلبِ، وما يَتبَعُهُما مِن سُلوكٍ هوَ أَسَاسُ الفَضلِ والخَيرِيَّةِ.

ومع هذهِ الحَقِيقَةِ التِي يُقَرِّرُها سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كانَ يَخشَى على أمَّتِهِ مِنَ الغِنَى أَكثَرَ مِنَ الفَقرِ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الشَّيخَانِ عَن عَمْرو بْن عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «فوَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».

نَعَم، كانَ يَخشَى على أُمَّتِهِ من الغِنَى،إلَّا أنَّهُ كَانَ يُدرِكُ أنَّ الفَقرَ الشَّدِيدَ فِتنَةٌ كَبِيرةٌ، وكَانَ يَستَعِيذُ بِاللهِ تعالى من الكُفرِ والفَقرِ، كما جاء في دُعائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ».

حَياتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من حيثُ المادَّةِ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكِرَام: الكَثِيرُ من النَّاسِ اليَومَ جَعَلَ هَمَّهُ ودَأبَهُ المادَّةَ، ورُبَّما اليَومَ الأَغنياءُ يَبكونَ أَكثرَ مِنَ الفُقَراءِ، ومَا ذاكَ إلا لِفَقرِ القُلوبِ، كما قرَّرَ ذلكَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: من عَرَفَ لمَ خُلِقَ لم يَتَأثَّر بالمادَّةِ إِقبَالاً ولَا إِدبَارَاً، إِن أقبَلَتِ المَادَّةُ أخَذَها ولم يَعبَأ بها، وإن أدبَرَت تَرَكَها ونَامَ مَسروراً.

وليَسمَعْ مَن يَبكِي على الدُّنيا إلى مَا رواهُ الطَّبراني في الأوسطِ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: كانَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذاتَ يَومٍ، وجِبريلُ عليهِ السَّلامُ على الصَّفا.

فقال له رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يا جِبريلُ، والذي بَعَثَكَ بالحقِّ ما أمسَى لآلِ محمَّدٍ سَفَّةٌ من دَقيقٍ، ولا كَفٌّ من سُوَيقٍ» فَلَم يَكُن كَلامُهُ بأسرَعَ من أن سَمِعَ هَدَّةً من السَّماءِ أفزَعَتهُ.

فقالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أمَرَ اللهُ القِيامَةَ أن تَقومَ؟».

قال: لا، ولكن أمَرَ اللهُ إسرافيلَ، فَنَزَلَ إليكَ حينَ سَمِعَ كَلامَكَ، فأتاهُ إسرافيلُ، فقالَ: إنَّ اللهَ سَمِعَ ما ذَكَرتَ، فَبَعَثَني إليكَ بِمَفاتِيحِ خَزَائِنِ الأرضِ، وأمَرَني أن يُعرَضنَ عليكَ إن أحبَبتَ أن أُسَيِّرَ مَعَكَ جِبالَ تِهامَةَ زُمُرُّداً وياقوتاً وذَهَباً وفِضَّةً فَعَلتُ، فإنْ شِئتَ نَبيَّاً مَلِكاً، وإنْ شِئتَ نَبيَّاً عَبداً؟ فَأومَأَ إليه جِبريلُ أن تَواضَع.

فقالَ: «بل نَبيَّاً عبداً» ثلاثاً.

لِيَسمعْ من يبكي على المادَّةِ إلى ما رواه الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعاً حَتَّى قُبِضَ.

مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: سيِّدُنا ومَولَانا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَحمةٌ للعالمينَ، ومِن مَظاهِرِ رَحمَتِهِ أنَّها شَمِلَتِ الفَقَراءَ عَطاءً مع فَقرِهِ الاختِيَاريِّ ـ لأنَّ فَقرَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ اختِيارِيَّاً، وكَانَ يُعطِي عَطاءَ مَن لا يَخشى الفَقرَ ـ

أولاً: روى الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ نَاساً مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ».

ثانياً: روى الترمذي في الشمائل عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ، فَإِذَا جَاءَنِي شَيْءٌ قَضَيْتُهُ».

فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله، قَدْ أَعْطَيْتَهُ، فَمَا كَلَّفَكَ اللهُ مَا لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ عُمَرَ.

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ الله، أَنْفِقْ وَلا تَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالاً.

فَتَبَسَّمَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعُرِفَ فِي وَجْهِهِ الْبِشْرُ لِقَوْلِ الأَنْصَارِيِّ، ثُمَّ قَالَ: بِهَذَا أُمِرْتُ.

ثالثاً: روى الإمام البخاري عن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا أُحِبُّ أَنَّ أُحُداً لِي ذَهَباً يَأْتِي عَلَيَّ لَيْلَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ الله هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا».

رابعاً: روى الإمام البخاري عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟

قَالُوا: الشَّمْلَةُ.

قَالَ: نَعَمْ.

فقَالَتْ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ.

فَقَالَ: اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا.

قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ! لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ.

قَالَ: إِنِّي والله مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي.

قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ.

مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ؟:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: من مَظاهِرِ رحمَةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ التي شَمِلَتِ الفُقَراءَ عَطاءً، أنَّهُ كانَ يُحَرِّضُ أصحَابَهُ الكِرامَ رَضِيَ اللهُ عنهُم على العَطاءِ.

أولاً: روى الإمام مسلم عن أَبي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى».

ثانياً: روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ».

ثالثاً: روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ».

رابعاً: روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ.

فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ.

ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى، فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ.

فَقَالَ: «مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ؟».

فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ الله.

فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟

قَالَتْ: لَا، إِلَّا قُوتَ صِبْيَانِي.

قَالَ: فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ، فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئي السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ، فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ.

قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: تربِيَةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لأمَّتِهِ من حيثُ المادَّةُ، ربَّاهُم على غِنَى القَلبِ، فكانَ المَليءُ جَوادَاً كَريماً، وكانَ الفَقيرُ يَحسَبُهُ الجاهِلُ غنِيَّاً من التَّعَفُّفِ، فالأوَّلُ كانَ مِعطاءً، والآخَرُ كانَ عَفِيفَاً، لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ربَّى المجتَمَعَ على ذلكَ، فما كانَ يَرضَى للغَنِيِّ أن يَقبِضَ يَدَهُ، وما كانَ يَرضَى للفَقِيرِ أَن يَمُدَّ يَدَهُ.

روى أبو داوود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: «أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟».

قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ.

قَالَ: «ائْتِنِي بِهِمَا».

قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا.

فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟».

قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ.

قَالَ: «مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ» ـ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً ـ

قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ.

فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: «اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَاماً فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُوماً فَأْتِنِي بِهِ».

فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عُوداً بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً».

فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْباً، وَبِبَعْضِهَا طَعَاماً.

فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ».

بأَبِي وأمِّي وزَوجِي وأُصُولي وفُرُوعي أنتَ يا رَسُولَ الله، لقد ربَّيتَ المجتَمَعَ  تربِيَةً ما عَرَفَتها البَشَرِيَّةُ قَبلَكَ، ولَن تَزيدَ على هذهِ التَّربِيَةِ بَعدَكَ، لقد جَعَلتَ الغنيَّ مِعطاءً جواداً كريماً، وجَعَلتَ الفَقِيرَ عَفِيفَاً غَيرَ حَقُودٍ ولا حَسُودٍ.

أمَّا تربِيَةُ غَيرِكَ على العَكسِ من ذَلكَ تماماً، وخاصَّةً في زَمَنٍ زَهِدَ النَّاسُ فيه بِدِينِكَ ظَنَّاً منهُم أن يَجِدوا خَيراً من شَريعَتِكَ، فإذا بالأغنياءِ صَارُوا بُخَلاءَ، وإِذا بالفُقَراءِ صَارُوا حَاسِدِينَ، وبِذَلِكَ سُفِكَتِ الدِّماءُ، وسُلِبَتِ الأموالُ.

اللَّهُمَّ رُدَّنا إليكَ ردَّاً جميلاً، وَوَفِّقنا للسَّيرِ على نَهْجِ رسولِنا المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الاثنين: 28/جمادى الأولى /1434هـ، الموافق: 8/نيسان / 2013م

 

الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع الحبيب المصطفى   

26-06-2019 2372 مشاهدة
316ـ العناية الربانية بالحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ سَخَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ المَوْجُودَاتِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ صَلَّى ... المزيد

 26-06-2019
 
 2372
20-06-2019 1406 مشاهدة
315ـ سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى

الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد

 20-06-2019
 
 1406
28-04-2019 1195 مشاهدة
315ـ«لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ»

الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد

 28-04-2019
 
 1195
28-04-2019 1198 مشاهدة
314ـ في محط العناية

لَقَدِ رَحِمَ اللهُ تعالى هَذِهِ الأُمَّةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرَاً وَنَذِيرَاً، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ ... المزيد

 28-04-2019
 
 1198
21-03-2019 1848 مشاهدة
313- مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾

فَعَلَى قَدْرِ التَّحَمُّلِ يَكُونُ الأَدَاءُ، وَبِحَسْبِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ المُهِمَّةُ، لِذَلِكَ عَلَّمَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِهِ العَظِيمِ مَا لَمْ يَكُنْ ... المزيد

 21-03-2019
 
 1848
13-03-2019 1713 مشاهدة
312- مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:«فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ»

وَجَاءَتْ تَارَةً بِمَدْحِ أَهْلِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾. وَقَالَ: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا ... المزيد

 13-03-2019
 
 1713

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414947676
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :