26 ـ دروس رمضانية: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
إنَّ الخَشيَةَ من الله تعالى تَرتقي بالنُّفوسِ حتَّى لا تَرى لها قَراراً إلا بِجِوارِ الرَّحمنِ في جَنَّةِ الرِّضوانِ.
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الخَشيَةَ الحَقَّةَ والخَوفَ المَحمودَ، هما الحامِلُ على العَمَلِ، اللذان لا يَزالان يَدفَعانِ بِصاحِبِهِما إلى الطَّاعَةِ، ويُنَفِّرانِهِ من المَعصِيَةِ.
الخَشيَةُ الحَقَّةُ هيَ التي تُرَبِّي القَلبَ حتَّى لا يُفَرِّقَ بينَ مَعصِيَةٍ وأُخرى، فلا يَنظُرُ إلى صِغَرِ الذَّنبِ، ولكن يَنظُرُ إلى عَظَمَةِ الرَّبِّ.
أهلُ الخَشيَةِ هُمُ الذينَ ﴿إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون﴾.
أقبَلَت على سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخُطىً ثابِتَةٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: امرأةٌ عَلَّمَتِ البَشَرِيَّةَ جَمعاءَ كيفَ تَكونُ الخَشيَةُ من الله تعالى، جاءَت هذهِ المرأةُ إلى سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخُطىً ثابِتَةٍ، وفُؤادٍ يَرجُفُ وَجَلاً وخَشيَةً من الله تعالى، رَمَت بِكُلِّ مَقاييسِ البَشَرِ ومَوازِينِهِم، تَناسَتِ العارَ والفَضيحَةَ، لم تَخشَ النَّاسَ، أو عُيونَ النَّاسِ، أو ماذا سَيَقولُ عنها النَّاسُ؟
أقبَلَت تَطلُبُ المَوتَ، فالمَوتُ يَهونُ إن كانَ فيهِ إطفاءً لِحَرقَةِ الألَمِ، ولَسْعِ المَعصِيَةِ، وتَأنيبِ الضَّميرِ.
روى الإمام مسلم عن بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: جَاءَت الْغَامِدِيَّةُ إلى رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وَإِنَّهُ رَدَّهَا.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، لِمَ تَرُدُّنِي؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزاً، فوالله إِنِّي لَحُبْلَى.
قَالَ: «إِمَّا لَا، فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي».
فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ.
قَالَ: «اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ».
فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ الله قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ.
فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِن الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا.
فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَبِيُّ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إِيَّاهَا.
فَقَالَ: «مَهْلاً يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ ـ هُوَ مَنْ يَتَوَلَّى الضَّرَائِب الَّتِي تُؤْخَذ مِن النَّاس بِغَيْرِ حَقٍّ ـ لَغُفِرَ لَهُ».
ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ.
أيُّها الإخوة الكرام: يَقولُ الحَسَنُ البَصرِيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إنَّ الرَّجُلَ لَيُذنِبُ الذَّنبَ فَما يَنساهُ، وما يَزالُ مُتَخَوِّفاً منهُ حتَّى يَدخُلَ الجَنَّةَ. رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد.
أهلُ الخَشيَةِ هُمُ السُّعَداءُ في الدُّنيا، الفائِزونَ في الآخِرَةِ، قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أضحى البَعضُ يَخشى من المَخلوقِ ولا يَخشَى من اللهَ تعالى، يَرجو المَربوبَ ولا يَرجو الرَّبَّ تبارَكَ وتعالى، عَجَباً لمن يَخشى النَّاسَ ولا يَخشى اللهَ تعالى!! ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِين﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ: «كَيْفَ تَجِدُكَ؟».
قَالَ: والله يَا رَسُولَ الله، إَنِّي أَرْجُو اللهَ، وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ».
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوةُ الكرامُ: يَقولُ سيِّدُنا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: لو نَادَى مُنادٍ من السَّماءِ: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّكُم دَاخِلونَ الجَنَّةَ كُلُّكُم أجمَعونَ إلا رَجُلاً واحِداً لَخِفتُ أن أكونَ أنا هوَ، ولو نَادَى مُنادٍ: أيُّها النَّاسُ، إنَّكُم دَاخِلونَ النَّارَ إلا رَجُلاً واحِداً لَرَجوتُ أن أكونَ أنا هوَ. حلية الأولياء.
اللَّهُمَّ ارزُقنا الخَشيَةَ منكَ يا أرحَمَ الرَّاحمينَ.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الاثنين: 26 /رمضان /1434هـ، الموافق: 4/آب/ 2013م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد
فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد
غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد
مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد
يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد
الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد