9ـ العهد التاسع: الإنصاف(2)

9ـ العهد التاسع: الإنصاف(2)

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

فقد وقفنا أيها الإخوة في الدرس الماضي مع العهد الذي ينبغي أن نلتزمه جميعاً إن شاء الله، أن يكون عندنا الإنصاف للآخرين من أنفسنا، فمن سعادة ابن آدم أن ينصف الآخرين من نفسه، ومن شقائه ألا يكون منصفاً مع الآخرين، لأن الذي لا يكون منصفاً مع الآخرين يقع في الظلم، وإذا وقع العبد في الظلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الظلم ظلمات يوم القيامة) رواه البخاري، وربنا عز وجل يقول: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار}. وقضية ألا يعرف الإنسان نفسه أنه ظالم هذا مستحيل، وأيضاً يستحيل ألا يعرف الإنسان نفسه أنه منصف للآخرين من نفسه أم لا، لقول الله تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره}. ولكن الإنصاف للآخرين من نفسك يحتاج إلى قوة إيمان، ويحتاج إلى استحضار معالم يوم القيامة وأهوالها. فإذا استطاع الإنسان أن يزيد في إيمانه، وإذا استطاع الإنسان أن يرتبط بالآخرة في كل حركاته وسكناته أنصف الآخرين من نفسه، وأسرع إلى ذلك بدون توقف أو تردد.

انظروا إلى سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، روى الحاكم في المستدرك عن ربيعة الأسلمي رضي الله عنه قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً وأعطى أبا بكر أرضاً، فاختلفنا في عذق نخلة، قال: وجاءت الدنيا، فقال أبو بكر: هذه في حدي، وقلت: لا بل هي في حدي، قال : فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها وندم عليها، أي بعد أن تكلم بها لم تعجبه، كيف يتكلم هذه الكلمة وهو واحد من أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

هل يسوى الأمر أن يختلفا على عذق نخل؟ الآن بعض الناس يختلفون على شبر، ومن يختلف مع أخيه على قطعة أرض كأنه إنسان لا يفكر تفكيراً سليماً، إذاً كيف اختلف سيدنا أبو بكر مع سيدنا ربيعة رضي الله عنهما؟ الجواب: لأن هذه العطية إنما هي من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما أرى معك قلماً قيمته عشرة ليرات، أتوسل إليك لتعطيني إياه فتقول لي: لا، كل شيء أعطيك إلا هذا، قدَّمه عزيز لي، فالعطية هنا ليست طبيعية، وإنما هي عطية من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما تُقدَّم لك هدية تكون حريصاً عليها بمقدار معرفتك ومحبتك لمن أهداك.

وانظروا أيها الإخوة إلى سلامة الإيمان في القلب كيف تجعل جميع جوارحك سليمة، فإذا كان القلب سليماً سلمت الأعضاء، وإذا سلمت الأعضاء فأي زلة بسيطة يتنبه لها الإنسان مباشرة، كالثوب الأبيض، نقطة سوداء صغيرة تؤثر فيه، وكذلك الإنسان كلما سما في إيمانه فإن صدرت منه كلمة في حق الآخرين يتنبه مباشرة، وإن كان البعض يرى أنها كلمة طبيعية لا مشكلة فيها، ولكن المشكلة كيف أنظر إليها.

على سبيل المثال: سيدنا آدم عليه السلام عندما أكل من الشجرة، هل أكل منها عامداً عازماً على مخالفة أمر الله؟ لا أبداً، بشهادة الله عز وجل، قال تعالى: {فنسي ولم نجد له عزماً}، برَّأه الله، ولكن العبد ما هو موقفه؟ مباشرة سيدنا آدم عليه السلام قال: {ربنا ظلمنا أنفسنا}. فالكبار أيها الإخوة وإن عفوت عنهم وغفرت ولكنهم انجرحت قلوبهم بتلك الزلة. والأكثر من ذلك يوم القيامة، يأتيه الناس: (يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي، نفسي). رواه البخاري.

وقد يقول قائل: غفر الله له وانتهت المسألة؟ ولكن شأن الرجال هكذا، بمقدار إيمانك تعرف زلتك، وإذا اعتبرت شخصيتك كبيرة فلا يستقيم أن تقول: أنا ما عملت شيئاً هي كلمة تكلمت بها، لا تنظر إلى من أخطأت معه، ولكن انظر إلى مكانتك هل يليق بك هذا؟ فالجسم السليم أي خلل فيه يشعر به الإنسان، ولكن الجسم العليل مهما دبت فيه الأمراض فصاحبه لا يدري به. فالذي يستحضر يوم القيامة بأنه مسؤول أمام الله عز وجل ينصف الآخرين من نفسه مهما كانت الكلمة صغيرة.

فسيدنا أبو بكر رضي الله بسبب كمال الإيمان في قلبه شعر أن الكلمة لا تليق به هو، فكرهها الصديق رضي الله عنه، وما هي هذه الكلمة؟ سيدنا أبو بكر رضي الله عنه في الجاهلية ما عُرفت عنه كلمة فاحشة. فقال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: يا ربيعة قل لي مثل ما قلت لك، حتى تكون قصاصاً، ولم يقل له: سامحني، حتى لا يتحمل منة أحد يوم القيامة أن يأتي ويقول: أنا سامحتك وعفوت عنك، بل قال: رد عليَّ بمثلها، فقال سيدنا ربيعة: لا والله ما أنا بقائل لك إلا خيراً. قال: والله لتقولن لي كما قلت لك، حتى تكون قصاصاً، وإلا استعديت برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقلت: لا والله ما أنا بقائل لك إلا خيراً. يحاول الصديق رضي الله عنه أن يخرج من الدنيا وليس لأحد عليه شيء.

والذي يقول لربيعة الأسلمي ردَّ علي بمثلها، لو كان للسيدة فاطمة رضي الله عنها حق في الميراث من النبي صلى الله عليه وسلم أيمنعها سيدنا أبو بكر رضي الله عنه حقها من ميراثها من أبيها؟ حاشاه رضي الله عنه، ولكن الصديق وقَّاف عند حدود الشريعة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركناه صدقة) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً) رواه أبو داود والترمذي.

سيدنا أبو بكر رضي الله عنه قال كلمة لربيعة فما رضي أن يسامحه وإنما طلب أن يرد عليه بمثلها، أين هذا الإنصاف أيها الإخوة؟ أن ننصف الآخرين من أنفسنا. كم كلمة أسأنا فيها لنسائنا ولأبنائنا؟ وقد يقول قائل: أنا أربي ولدي، والله يقول: {الرجال قوامون على النساء}؟ الجواب: هل يعني هذا أن الرجال ظالمون للنساء، والمربي اسمه مربي، هل يتلفظ بكلمات نابية أم مؤدبة؟ الرجال لا تصدر منهم كلمة نابية، وإن صدرت كلمة نابية من امرأة لا يقابلها الرجل بمثلها، وعلى كل حال لو صدرت منك كلمة في حق الزوجة أو الولد أو الأخ أو الأخت، فلا تقل: ردَّ علي بمثلها، ولكن سارع إلى طلب السماح، ولا تتركها ليوم القيامة، لأنها في يوم القيامة ستأخذ من حسناتك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم) رواه البخاري. فمن يستحضر الموقف يوم القيامة يكون كالصديق رضي الله عنه، قال: رد عليَّ بمثلها يا ربيعة، قال: والله لا أفعل، قال: والله لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا أفعل.

قال ربيعة: فرفض أبو بكر الأرض، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت أتلوه، فقال أناس من أسلم: يرحم الله أبا بكر هو الذي قال ما قال، ويستعدي عليك؟ قال: فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر، هذا ثاني اثنين، هذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه، فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة، قال: فرجعوا عني. ـ هو يعرف شخصية الصديق رضي الله عنه فكيف يرد عليه، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل. لذلك من لا يعرف شخصية الصديق رض الله عنه يسيء إليه، أما من يعرفه فيقف عند حدود الشريعة.

قال ربيعة: وانطلقت أتلوه حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقصّ الذي كان، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ربيعة ما لك والصديق؟ قال: فقلت مثل ما قال، كان كذا وكذا، فقال لي: قل مثل ما قلت لك فأبيت أن أقول له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجل، فلا تقل له مثل ما قال، ولكن قل: يغفر الله لك يا أبا بكر). قال : فولى الصديق رضي الله عنه وهو يبكي. لماذا يبكي الصديق؟ ألم يصله حقه؟ بلى، ولكن ربيعة صارت له يد عند الصديق رضي الله عنه، ويريد الصديق أن يخرج من الدنيا له لا عليه، وأن تكون له اليد وألا تكون عليه يد. لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم كافأ الجميع من أصحابه إلا الصديق، ترك مكافأته لله عز وجل.

أيها الإخوة: أناشدكم الله، أين إنصافنا للآخرين من أنفسنا؟ وإذا أردنا أن نقف على تعاملنا فلا نجد عندنا ميزاناً واحداً، لأن المشكلة أننا ما عرفنا الإنصاف، فلو جاءت زوجتك تشكو إليك أمك أو أختك، فالإنصاف أن تصغي إليها، وأن تسمع القصة، وألا تسكتها، وتقول: هذه أمي أختي. ولو جاءت أمك أو أختك لتتكلم على زوجتك وإذا بك أذن صاغية! سبحان الله، لم هنا ممنوع الكلام، وهنا مسموح؟ إن تكلمت الأم أو الزوجة فمن الصادق بداية عندك؟ الأم والأخت صادقة والزوجة كاذبة، وربما في أغلب أحوالنا وشؤوننا تكون الأم ظالمة والأخت ظالمة، والزوجة مظلومة، ونطلب من الزوجة أن تطلب السماح وتعتذر من الأم والأخت، فنقوي الظالم على ظلمه، ونمحق المظلوم محقاً، فهل هذا من الإنصاف؟ لا والله.

أيها الإخوة: هل نعاهد الله تعالى أن نتحلى بصفة الإنصاف؟ لأن ربنا جل وعلا يقول لنا: {ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين}. فيا أيها الموقن بأنك ستقف بين يدي الله عز وجل، واللهِ إن الحرف الذي تتكلمه سوف تُسأل عنه، فإما أن تكون منصفاً للآخرين من نفسك في حياتك الدنيا، وإما أن ينصر ربنا العبد المظلوم يوم القيامة، فيؤخذ من حسناتك، وإن لم تكن عندك حسنات ـ لا قدر الله ـ أخذ من خطاياهم فطرحت على هذا العبد ثم طرح في نار جهنم، والعياذ بالله تعالى.

أسأل الله أن يجعلني وإياكم من المنصفين. والحمد لله رب العالمين.

 

 2007-10-26
 6232
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  دروس رمضانية

14-03-2024 330 مشاهدة
1-مواساة لأصحاب الأعذار في رمضان

يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد

 14-03-2024
 
 330
26-05-2022 695 مشاهدة
28ـ غزوة بدر وحسرة المشركين

فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد

 26-05-2022
 
 695
26-05-2022 519 مشاهدة
27ـ غزوة بدر درس عملي لكل ظالم ومظلوم

غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد

 26-05-2022
 
 519
29-04-2022 388 مشاهدة
26ـ غزوة بدر وتواضع القائد

مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 388
29-04-2022 822 مشاهدة
25ـ هنيئًا لكم أيها الصائمون القائمون

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد

 29-04-2022
 
 822
29-04-2022 940 مشاهدة
24ـ أقوام عاشوا عيش السعداء

الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 940

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413258706
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :