400ـ خطبة الجمعة: ثمرات بر الوالدين

400ـ خطبة الجمعة: ثمرات بر الوالدين

 

 400ـ خطبة الجمعة: ثمرات بر الوالدين

 مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، لقد ضَاقَ الخِنَاقُ عَلَينَا في هذهِ الأَزمَةِ، فما من أَحَدٍ إلا وَيَشكُو إلى اللهِ تعالى من شِدَّةِ هذهِ الأَزمَةِ على القُلُوبِ، هَمٌّ وغَمٌّ وكَربٌ عَظِيمٌ، الكُلُّ يَتَطَلَّعُ إلى تَفرِيجِ الكَربِ، الكُلُّ يَتَسَاءَلُ مَتَى الفَرَجُ؟

يَا عِبَادَ اللهِ، قُولُوا لِكُلِّ من ضَاقَ صَدْرُهُ، وضَاقَت عَلَيهِ الأَرضُ بِمَا رَحُبَت: هل تُرِيدُ أن تَكُونَ مُجَابَ الدَّعوَةِ؟ هل تُرِيدُ أن يُفَرِّجَ اللهُ عزَّ وجلَّ عَنكَ هُمُومَكَ وأَحزَانَكَ، ويُخرِجَكَ من الهَمِّ والكَربِ العَظِيمِ؟ هل تُرِيدُ سَعَادَةَ الدُّنيَا والآخِرَةِ والحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ؟ هل تُرِيدُ أن تَكُونَ مُسَدَّدَاً ومُوَفَّقَاً ومَحفُوظَاً من كُلِّ مَكرُوهٍ؟ إذا أَرَدتَ كُلَّ هذا فَكُنْ بَارَّاً بِوَالِدَيكَ، مَعَ الإخلاصِ للهِ تعالى في بِرِّكَ لَهُمَا.

بِرُّ الوَالِدَينِ سَبَبٌ لإجَابَةِ الدَّعوَةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، أَتُرِيدُونَ دَلِيلاً على أنَّ بِرِّ الوَالِدَينِ سَبَبٌ لاستِجَابَةِ الدُّعَاءِ؟ فاسمَعُوا إلى الحَدِيثِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِن اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ». فَاسْتَغْفِرْ لِي؛ فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.

بِرُّ الوَالِدَينِ سَبَبٌ لِتَفرِيجِ الهُمُومِ والغُمُومِ والكُرُوبِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، أَتُرِيدُونَ دَلِيلاً على أنَّ بِرِّ الوَالِدَينِ سَبَبٌ لِتَفرِيجِ الهُمُومِ والغُمُومِ والكُرُوبِ؟ فاسمَعُوا إلى الحَدِيثِ الذي رواه الإمام البخاري عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى أَوَوْا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ.

فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ.

فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلَا مَالاًـ أي: لا أُقَدِّمُ عَلَيْهِمَا أَحَداً فِي شُرْبِ نَصِيبِهِمَا عِشَاءً مِن اللَّبَنِ ـ فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْماً، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا، حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا؛ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئاً».

بِرُّ الوَالِدَينِ سَبَبٌ لِدُخُولِ الجَنَّةِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، أَتُرِيدُونَ دَلِيلاً على أنَّ بِرِّ الوَالِدَينِ سَبَبٌ لِدُخُولِ الجَنَّةِ؟ فاسمَعُوا إلى الحَدِيثِ الذي رواه الحاكم والإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا قِرَاءَةً، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟

قَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ».

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَذَلكُمُ الْبِرُّ، كَذَلكُمُ الْبِرُّ». يَعنِي: مِثلَ تِلكَ المَنزِلَةِ والدَّرَجَةِ تُنَالُ بالبِرِّ؛ وكَانَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ من أَبَرِّ النَّاسِ بِأُمِّهِ.

وإلى الحَدِيثِ الذي رواه ابن ماجه عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.

قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».

قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: «ارْجِعْ فَبِرَّهَا».

ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِن الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.

قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».

قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبِرَّهَا».

ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ أَمَامِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.

قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟».

قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «وَيْحَكَ، اِلْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ».

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، لا يَلِيقُ بِعَاقِلٍ مُؤمِنٍ عَلِمَ ثَمَرَاتِ بِرِّ الوَالِدَينِ، ثمَّ يُعرِضُ عَنهُ ولا يَقُومُ بِهِ، والأَسوَءُ حَالاً مِنهُ أن يَقَعَ في العُقُوقِ.

يَا عِبَادَ اللهِ، إنَّ بِرَّ الوَالِدَينِ جَمَعَ من الخَيرِ أَكمَلَهُ، ومن الإحسَانِ أَجمَلَهُ، وحَازَ من المَعرُوفِ أَنفَعَهُ، وحَوَى من الفَضلِ أَرفعَهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ، بِرُّوا آبَاءَكُم وأُمَّهَاتِكُم، وأَعطُوا نِسَاءَكُم حَقَّهُنَّ، ولا يَطغَ حَقٌّ على حَقٍّ، واعلَمُوا بأَنَّ الأَمرَ دَينٌ، فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ.

اللَّهُمَّ اجعَلنَا كما تُحِبُّ وتَرضَى يا رَبَّ العَالَمِينَ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 17/ذو القعدة/1435هـ، الموافق: 12/أيلول / 2014م

 2014-09-12
 21818
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

17-05-2024 93 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 93
10-05-2024 310 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 310
02-05-2024 558 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 558
26-04-2024 509 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 509
19-04-2024 810 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 810
12-04-2024 1532 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1532

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414913412
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :