146ـ كلمة شهر ربيع الثاني 1440: «إِلَّا يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا أَنْ أَكْرَمَنَا اللهُ تعالى بِنِعْمَةِ الإِيمَانِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْلَا الإِذْنُ مِنَ اللهِ تعالى مَا آمَنَّا، أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾؟
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا *** وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَـأَنْـزِلَـنْ سَـكِـيـنَةً عَلَـيْنَا *** وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
«إِلَّا يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ هُوَ شَرَفٌ عَظِيمٌ أَنْ يَنْسَجِمَ الإِنْسَانُ مَعَ الكَوْنِ كُلِّهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ شَاذَّاً عَنِ الكَوْنِ؟ لِأَنَّهُ مَنْ شَذَّ شَذَّ في النَّارِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ.
الكَوْنُ كُلُّهُ عُلْوِيُّهُ وَسُفْلِيُّهُ بِجَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، كُلُّهُ يَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا الكُفَّارَ مِنْ عَالَمِ الإِنْسِ وَالجِنِّ.
روى الإمام أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ، حَتَّى إِذَا دَفَعْنَا إِلَى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ بَنِي النَّجَّارِ، إِذَا فِيهِ جَمَلٌ لَا يَدْخُلُ الْحَائِطَ أَحَدٌ إِلَّا شَدَّ عَلَيْهِ، قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ حَتَّى أَتَى الْحَائِطَ، فَدَعَا الْبَعِيرَ، فَجَاءَ وَاضِعَاً مِشْفَرَهُ (كَالشِّفَةِ مِنَ الإِنْسَانِ) إِلَى الْأَرْضِ، حَتَّى بَرَكَ بَيْنَ يَدَيْهِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هَاتُوا خِطَامَهُ» فَخَطَمَهُ، وَدَفَعَهُ إِلَى صَاحِبِهِ.
قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى النَّاسِ، قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، إِلَّا يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا عَاصِيَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ».
نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَمَا يَكُونُ انْسِجَامُ العَبْدِ مَعَ الكَوْنِ كُلِّهِ، وَمَنْ كَانَ مُنْسَجِمَاً مَعَ الكَوْنِ كُلِّهِ فَإِنَّهُ يَشْعُرُ بِرَاحَةِ القَلْبِ، وَرَاحَةِ النَّفْسِ، وَبِالطُّمَأْنِينَةِ.
وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ تَأَلَّمَ عَلَيْهِ الكَوْنُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَبَكَى، وَإِلَّا فَالكَوْنُ يَرْتَاحُ بِمَوْتِ مَنْ كَفَرَ؛ أَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾؟
فَالكَوْنُ يَبْكِي عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ، وَلَا يَبْكِي عَلَى مَنْ مَاتَ كَافِرَاً، جَاءَ في بَعْضِ التَّفَاسِيرِ: إِذَا مَاتَ المُؤْمِنُ بَكَى عَلَيْهِ مَوْضِعَانِ: مَوْضِعٌ في السَّمَاءِ، وَمَوْضِعٌ في الأَرْضِ، أَمَّا في الأَرْضِ فَمَوْضِعُ مُصَلَّاهُ؛ لِأَنَّهُ حُرِمَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَأَمَّا مَوْضِعُهُ في السَّمَاءِ فَمَصْعَدُ عَمَلِهِ الطَّيِّبِ.
«هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ العَجِيبِ أَنْ تَرَى مَنْ يُنْكِرُ عَلَى المُسْلِمِينَ حُبَّهُمْ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَيْفَ لَا نُحِبُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَحَبَّهُ كُلُّ شَيْءٍ في هَذَا الكَوْنِ مِنْ فَرْشِهِ إلى عَرْشِهِ، فَقَدْ أَحَبَّهُ الجَمَادُ، وَبَادَلَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حُبَّاً بِحُبٍّ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ جَبَلِ أُحُدٍ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وفي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أُحُدَاً جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِنْسَانُ السَّوِيُّ يُحِبُّ المَنَاظِرَ الطَّبِيعِيَّةَ الجَمِيلَةَ، مِنْ جِبَالٍ مَكْسُوَّةٍ بِالخُضْرَةِ، وَبَسَاتِينَ مُنَوَّعَةِ الخُضْرَةِ، وَيَأْلَفُ ذَلِكَ وَيَرْغَبُ تَكْرَارَ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَالجُلُوسَ عِنْدَهُ، وَالتَّمَتُّعَ فِيهِ، لِمَا يَجِدُ في نَفْسِهِ مِنْ أُنْسٍ وَرَاحَةٍ وَمُتْعَةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ وَهُدُوءٍ وَسَعَادَةٍ، كَمَا يُحِبُّ الشَّيْءَ الجَمِيلَ وَالشَّيْءَ الحَسَنَ وَلَو كَانَ جَمَادَاً.
أَمَّا مَحَبَّةُ الجَمَادِ الصُّلْبِ القَاسِي للإِنْسَانِ فَهَذَا غَيْرُ مَأْلُوفٍ وَلَا مَعْهُودٍ، بَل هُوَ مُسْتَغْرَبٌ، وَغَيْرُ مَأْلُوفٍ، وَلِهَذَا قَدَّمَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِإِظْهَارِ حُصُولِهِ وَبَيَانِ وُجُودِهِ وَتَأْكِيدِ فَضْلِهِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ نَظَرَ إلى جَبَلِ أُحُدٍ لَا يَجِدُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ مَا يُفَرِّقُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الجِبَالِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ دُونَ غَيْرِهِ بِكَثِيرٍ، فَلَا شَجَرَ فِيهِ وَلَا مَاءَ، وَلَا خُضْرَةَ لَدَيْهِ، لِذَا قَلَّ أَنْ يُثِيرَ مَا يُحَبُّ لِأَجْلِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا غَرَسَ اللهُ تعالى فِيهِ مَحَبَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَمَا كَانَ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنْ بَادَلَهُ حُبَّاً بِحُبٍّ، فَالجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، وَمَا جَزَاءُ مَنْ يُحِبُّ إِلَّا أَنْ يُحَبَّ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى التَّعَرُّفِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
كُلُّ شَيْءٍ في الكَوْنِ يَغَارُ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ شَاةً إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَمِيطَاً، فَلَمَّا بَسَطَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّ عُضْوَاً مِنْ أَعْضَائِهَا يُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ».
أَيْنَ حُبُّنَا لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تُسْرِيَ حُبَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في عُرُوقِنَا. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
السبت: 1/ ربيع الثاني /1440 هـ، الموافق: 8/ كانون الأول / 2018م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
مَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ وَالمَجَازِرُ الدَّمَوِيَّةُ تُرْتَكَبُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَفي غَزَّةَ خَاصَّةً شَمَلَتِ الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ الضُّعَفَاءَ وَالآمِنِينَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ ... المزيد
مَا أَجْمَلَ شَهْرَ الرَّبِيعِ الذي وُلِدَ فِيهِ الحَبِيبُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟! حَيْثُ إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يُذَكِّرُنَا بِفَصْلِ الرَّبِيعِ الذي فِيهِ تَتَفَتَّحُ الأَزْهَارُ، وَتُغَرِّدُ ... المزيد
التَّشَاؤُمُ وَالتَّطَيُّرُ مِنَ الصِّفَاتِ المَذْمُومَةِ، وَالأَخْلَاقِ اللَّئِيمَةِ، وَلَا يَصْدُرَانِ إِلَّا مِنَ النُّفُوسِ المُسْتَكِينَةِ، لِمُنَافَاةِ ذَلِكَ للتَّوَكُّلِ وَاليَقِينِ، فَهُمَا مِنْ سِمَاتِ الكُسَالَى وَالبَطَّالِينَ، ... المزيد
انْقَضَى عَامٌ هِجْرِيٌّ مِنْ حَيَاتِنَا، وَلَا نَدْرِي مَاذَا كَانَ في صَفَحَاتِ العَامِ المُنْصَرِمِ، هَلْ سَوَّدْنَا تِلْكَ الصَّفَحَاتِ بِسُوءِ أَعْمَالِنَا، أَمْ بَيَّضْنَاهَا بِصَالِحِ طَاعَاتِنَا وَقُرُبَاتِنَا؟ الحَقُّ يُقَالُ: نُفُوسُنَا ... المزيد
إِنَّ إِخْوَانَكُمْ في هَذِهِ الأَيَّامِ المُبَارَكَةِ قَدْ أَحْرَمُوا للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَصَدُوا بَيْتَ اللهِ الحَرَامَ، وَمَلَؤُوا الفَضَاءَ بِالتَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّعْظِيمِ، مُسْتَجِيبِينِ في ذَلِكَ نِدَاءَ ... المزيد
إِنَّ الحَجَّ إلى بَيْتِ اللهِ تعالى الحَرَامِ مِنْ أَعْظَمِ الفَرَائِضِ التي فَرَضَهَا اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ تَبَارَكَ وتعالى بِهِمْ أَنْ أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مَرَّةً وَاحِدَةً في العُمُرِ، مُقَيَّدًا ... المزيد