686ـ خطبة الجمعة: من أسباب كسب الرزق
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الهُمُومِ التي تُسَيْطِرُ عَلَيْنَا هَمَّ الرِّزْقِ، وَالبَحْثِ عَنْ لُقْمَةِ العَيْشِ، لَقَدْ رَأَيْنَا في هَذِهِ الآوِنَةِ مَنْ تَغَرَّبَ عَنْ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ مِنْ أَجْلِ لُقْمَةِ العَيْشِ.
كَمَا رَأَيْنَا مَنْ ظَهَرَ عَلَى وُجُوهِهِمُ التَّعَبُ وَالنَّصَبُ مِنْ آثَارِ السَّعْيِ وَرَاءَ لُقْمَةِ العَيْشِ.
كَمَا رَأَيْنَا السَّوَادَ مِنَ المُسْلِمِينَ مَنْ يَعِيشُ في رِقِّ الوَظِيفَةِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، كَمَا يَعِيشُ العُمَّالُ في رِقِّ أَرْبَابِ العَمَلِ، وَالكُلُّ مِنْهُمْ يَتَطَلَّعُ إلى رَحْمَةِ المُدَرَاءِ وَالوُزَرَاءِ وَأَرْبَابِ العَمَلِ مِنْ أَصْحَابِ المُؤَسَّسَاتِ وَالشَّرِكَاتِ.
وَأَنَا أَقُولُ لِكُلِّ مَنِ اسْتَرْعَاهُ اللهُ تعالى رَعِيَّةً أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ تعالى في رَعِيَّتِهِ، وَلْيَذْكُرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾. فَعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصُومُ.
مِنْ أَسْبَابِ كَسْبِ الرِّزْقِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ البَحْثَ عَنْ لُقْمَةِ العَيْشِ وَكَسْبِ الرِّزْقِ، وَخَاصَّةً في أَيَّامِ الغَلَاءِ يَحْتَاجُ إلى أَخْذٍ بِالأَسْبَابِ المَشْرُوعَةِ، وَهَذَا وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الأُمَّةِ اسْتَرْعَاهُ اللهُ تعالى عَلَى رَعِيَّةٍ صَغِيرَةٍ أَو كَبِيرَةٍ.
وَلَكِنْ قَبْلَ الأَخْذِ بِالأَسْبَابِ المَادِّيَّةِ المَشْرُوعَةِ لِكَسْبِ العَيْشِ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الرِّزْقِ التَّوْبَةَ إلى اللهِ تعالى، وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَكَثْرَةَ الاسْتِغْفَارِ.
قَالَ تعالى حِكَايَةً عَنْ سَيِّدِنَا نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارَاً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارَاً * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارَاً﴾؟
يَا عِبَادَ اللهِ: قَدْ يَقُولُ أَحَدُنَا: نَحْنُ جَعَلْنَا لِأَنْفُسِنَا كُلَ يَوْمٍ وِرْدَاً مِنَ الاسْتِغْفَارِ، مِئَةَ مَرَّةٍ، وَنَقْرَأُ سَيِّدَ الاسْتِغْفَارِ، وَلَكِنْ لَا نَزْدَادُ إِلَّا فَقْرَاً، نَعَمْ كَلَامٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ اسْتِغْفَارَنَا بِاللِّسَانِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ اسْتِغْفَارٌ بِدُونِ وَعْيٍ وَبِدُونِ عَمَلٍ، نَسْتَغْفِرُ وَنُكْثِرُ مِنَ الاسْتِغْفَارِ، وَلَكِنْ مَعَ الإِصْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ، وَهَذَا خَطْبٌ عَظِيمٌ، وَوَاللهِ صَدَقَ مَنْ قَالَ: إِنَّ اسْتِغْفَارَنَا يَحْتَاجُ إلى اسْتِغْفَارٍ.
يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَصْدُقْ مَعَ أَنْفُسِنَا، هَلْ مِنَّا مَنْ فَكَّرَ عِنْدَمَا ضَاقَتْ عَلَيْهِ أَسْبَابُ الرِّزْقِ أَنْ يَرْجِعَ إلى نَفْسِهِ لِيُحَاسِبَهَا، وَلِيَقِفَ مَعَ ذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ اللهَ تعالى مِمَّا جَنَتْ يَدَاهُ؟
شَكَى رَجُلٌ إلى الحسَنِ البَصْرِيِّ شِدَّةَ الجَدْبِ وَنَقْصَ المَالِ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَغْفِرِ اللهَ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَشَكا إِلَيْهِ الفَقْرَ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَغْفرِ اللهَ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ اللهَ لِي أَن يَرْزُقنِي ابْنَاً، فَقَالَ: اسْتَغْفِرِ اللهَ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَشَكا إِلَيْهِ جَفَافَ بَسَاتِينِهِ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَغْفِرِ اللهَ.
فَقيل لَهُ: أَتَاكَ رِجَالٌ يَشْكُونَ أَبْوَابَاً وَيَسْأَلُونَ أَنْوَاعَاً فَأَمَرَتَهُمْ كُلَّهُمْ بِالاسْتِغْفَارِ، فَقَالَ: مَا قُلْتُ مِنْ ذَاتِ نَفْسِي فِي ذَلِكَ شَيْئَاً، إِنَّمَا اعْتَبَرْتُ فِيهِ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حِكَايَةً عَن نَبِيِّهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: ﴿اسْتَغْفرُوا ربكُم﴾ الْآيَةَ. كذا في عمدة القاري.
يَا عِبَادَ اللهِ: مِمَّنْ تَفَطَّنَ لِثَمَرَةِ الاسْتِغْفَارِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ سَيِّدُنَا هُودٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَسْلِيمِ، فَقَالَ تعالى مُخْبِرَاً عَنْهُ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ إِنَّنَا لَنَعِيشُ في هَمٍّ وَغَمٍّ وَكَرْبٍ مِنْ أَجْلِ لُقْمَةِ العَيْشِ، طَاشَتْ عُقُولُ النَّاسِ، وَشَرَّقُوا وَغَرَّبُوا في الأَرْضِ يَبْحَثُونَ عَنْ لُقْمَةِ عَيْشِهِمْ، وَلَكِنْ وَبِكُلِّ صَرَاحَةٍ مَعَ الإِصْرَارِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَالمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَمْ يَسْتَغْفِرُوا عَمَّا مَضَى، وَلَمْ يَعْزِمُوا عَلَى عَدَمِ الوُقُوعِ في المُسْتَقْبَلِ فِيمَا اعْتَادُوا الوُقُوعَ فِيهِ في المَاضِي بِعَزْمٍ صَادِقٍ وَنِيَّةٍ جَازِمَةٍ.
نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ: المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَالأَمْرُ بِالمُنْكَرِ وَالنَّهْيُ عَنِ المَعْرُوفِ سَبَبٌ لِزَوَالِ النِّعَمِ، وَسَبَبٌ لِضِيقِ العَيْشِ، وَسَبَبٌ لِغَلَاءِ الأَسْعَارِ، فَإِذَا أَرَدْنَا سَعَةَ الرِّزْقِ، وَرَغَدَ العَيْشِ، فَلْنَفْعَلْ كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا العَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَمَّا اسْتَسْقَى بِهِ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَامَ الرِّمَادَةِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَا يُكْشَفُ إِلَّا بِتَوْبَةٍ. /كذا في المجالسة وجواهر العلم
يَا عِبَادَ اللهِ: أُذَكِّرُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجَاً، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجَاً، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» رواه أبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
فَلْيَكُنِ اسْتِغْفَارُنَا صِدْقَاً، وَتَوْبَتُنَا جِدَّاً، وَلْيَتُبْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَنْبِهِ الذي يَعْمَلُهُ وَمَا زَالَ مُصِرَّاً عَلَيْهِ، لَعَلَّ اللهَ تعالى أَنْ يُفَرِّجَ عَنَّا عَاجِلَاً غَيْرَ آجِلٍ. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 23/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 20/ كانون الأول / 2019م
لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا، وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا جَدِيدًا، رَأَيْنَا بَدَايَتَهُ، وَلَا نَدْرِي هَلْ نَرَى نِهَايَتَهُ أَمْ لَا؟ بِمُضِيِّ هَذَا العَامِ اقْتَرَبَ أَجَلُنَا، وَأَوْشَكْنَا عَلَى المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ، أَلَا ... المزيد
لِنَقِفْ وَقَفَاتٍ نَتَسَاءَلُ فِيهَا مَعَ أَنْفُسِنَا، وَنُتْبِعُ ذَلِكَ بِلَحَظَاتِ تَأَمُّلٍ؛ ثُمَّ لِنَقِفْ وِقْفَةَ مُحَاسَبَةٍ مَعَ أَنْفُسِنَا. نَحْنُ في كُلِّ يَوْمٍ نَرَى الشَّمْسَ تَطْلُعُ مِنَ الشَّرْقِ، وَتَجْرِي حَتَّى تَغِيبَ ... المزيد
لِينُ القَلْبِ هُوَ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ... المزيد
مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى حَقِيقَةِ العِيدِ، وَعَلَى أَثَرِهِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ، مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ أَنْ نَأْخُذَ الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ مِنْ مُرُورِ العِيدِ عَلَيْنَا، وَذَلِكَ بِتَرْوِيضِ ... المزيد
مَا أَشَدَّ حَاجَتَنَا اليَوْمَ إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَى المَغْزَى الحَقِيقِيِّ فِي العِيدِ، وَعَلَى الأَثَرِ الإِيمَانِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ مِنْهُ، فَالعِيدُ الحَقِيقِيُّ لَيْسَ بِأَنْ يَتَحَلَّى أَحَدُنَا بِالجَدِيدِ، إِنَّمَا يَكُونُ ... المزيد
بِالعَمَلِ الصَّالِحِ تَحْيَا القُلُوبُ، وَتَزْدَادُ نُورًا يُضِيءُ لِصَاحِبِهِ الطَّرِيقَ، لِيَسِيرَ بِهِ فِي النَّاسِ طَالِبًا مَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِتَرْكِ العَمَلِ الصَّالِحِ قَدْ يَصِلُ القَلْبُ إِلَى المَوْتِ، وَيُصْبِحُ ... المزيد