27ـ لماذا اختار أن يكون على خزائن الأرض؟

27ـ لماذا اختار أن يكون على خزائن الأرض؟

27ـ لماذا اختار أن يكون على خزائن الأرض؟

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ تَعَلَّمْنَا مِنْ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ كَيْفَ يَكُونُ اسْتِغْلَالُ الفُرَصِ وَاسْتِثْمَارُهَا مِنْ أَجْلِ صَلَاحِ العِبَادِ وَالبِلَادِ، وَمِنْ أَجْلِ دَعْوَةِ النَّاسِ إلى اللهِ تعالى.

لَقَدِ اسْتَغَلَّ فُرْصَةَ دَعْوَةِ المَلِكِ لَهُ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾. نَبَاهَةٌ وَفَطَانَةٌ وَاسْتِغْلَالٌ للفُرَصِ لِتَقْدِيمِ الخَيْرِ للآخَرِينَ مَهْمَا كَانَ شَأْنُهُمْ وَحَالُهُمْ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الخَيْرِ للآخَرِينَ يَمْلِكُ القُلُوبَ، وَمَنْ مَلكَ القُلُوبَ وَكَانَ دَاعِيَاً إلى اللهِ تعالى حَوَّلَ القُلُوبَ إلى اللهِ تعالى.

لِمَاذَا اخْتَارَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمَا ذَكَرْتُ في الدَّرْسِ المَاضِي أَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ لَمْ يَطْلُبِ الإِمَارَةَ ابْتِدَاءً، بَلْ طَلَبَ نَوْعَاً مِنْ أَنْوَاعِهَا، لَقَدْ طَلَبَ مِنَ المَلِكِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ، حِرْصَاً مِنْهُ عَلى تَقْدِيمِ الخَيْرِ للأُمَّةِ.

وَالسُّؤَالُ الذي يَطْرَحُ نَفْسَهُ لِمَاذَا اخْتَارَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَنْ يَكُونَ عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ دُونَ غَيْرِهَا؟

الجَوَابُ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ:

أولاً: هَذَا المَقَامُ وَالمَنْصِبُ مِنْ أَرْفَعِ المَقَامَاتِ وَالمَنَاصِبِ، لِأَنَّهُ مِنْ خِلَالِهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ وَيَأْمُرَ وَيَنْهَى وَيُنَفِّذَ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ شَرِيعَةِ اللهِ تعالى، كَمَا أَنَّهُ يَسْتَغِلُّ فُرَصَ المُحْتَاجِينَ في دَعْوَتِهِمْ إلى اللهِ تعالى، وَلِأَنَّ الأُمَّةَ كُلَّهَا بِحَاجَةٍ إلى صَاحِبِ هَذِهِ المَنْزِلَةِ.

ثانياً: هَذَا المَقَامُ وَالمَنْصِبُ الذي اخْتَارَهُ لِأَنَّهُ يَتَنَاسَبُ مَعَ مُؤَهِّلَاتِهِ، فَهُوَ الحَفِيظُ العَلِيمُ، كَمَا قَالَ مُتَحَدِّثَاً عَنْ نِعْمَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّخَصُّصِ.

خَزَائِنُ الأَرْضِ وَأَقْوَاتُ النَّاسِ تَحْتَاجُ إلى خَبِيرٍ عَلِيمٍ، كَمَا تَحْتَاجُ إلى حَفِيظٍ أَمِينٍ، وَإِلَّا ضَاعَتِ الأُمَّةُ وَانْتَشَرَ الفَسَادُ.

ثالثاً: هَذَا المَقَامُ وَالمَنْصِبُ الذي اخْتَارَهُ لِأَنَّ لَهُ أَثَرَاً عَظِيمَاً عَلَى النَّاسِ، وَخَاصَّةً أَيَّامَ الشَّدَائِدِ، حَيْثُ يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ المَالِ، وَمَصَالِحُ النَّاسِ كُلُّهَا مُرْتَبِطَةٌ بِصَاحِبِ هَذَا المَقَامِ، أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ وَزِيرَ المَالِيَّةِ لَهُ مَكَانَةٌ خَاصَّةٌ مُتَمَيِّزَةٌ في أَيِّ وَزَارَةٍ مِنَ الوَزَارَاتِ، لِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا المَقَامَ لَا يَصْلُحُ في ذَلِكَ الوَقْتِ إِلَّا لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، لِأَنَّهُ حَفِيظٌ عَلِيمٌ، صَاحِبُ خِبْرَةٍ وَ صَاحِبُ أَمَانَةٍ، وَهُوَ المُؤَيَّدُ وَالمُسَدَّدُ مِنَ اللهِ تعالى.

رابعاً: هَذَا المَقَامُ وَالمَنْصِبُ الذي اخْتَارَهُ مَا جَاءَ عَبَثَاً، بَلْ لِمَعْرِفَتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ وَاقِعَ ذَلِكَ البَلَدِ، وَمَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنْ ظُلْمٍ؛ وَأَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ سُجِنَ ظُلْمَاً وَعُدْوَانَاً، وَكَانُوا خَاطِئِينَ لَا مُخْطِئِينَ في سَجْنِهِ، لِأَنَّهُ مِنَ البِدَايَةِ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا عَلَى بَرَاءَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ سُجِنَ، فَالبَلَدُ فِيهِ ظُلْمٌ شَدِيدٌ، وَمِصْرُ مُقْبِلَةٌ عَلَى أَزْمَةٍ مَالِيَّةٍ لَا مَثِيلَ لَهَا، وَفِي أَيَّامِ المِحَنِ وَالشَّدَائِدِ وَالقَحْطِ وَقِلَّةِ الأَرْزَاقِ قَلَّ مَنْ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَلَّ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ النَّاسِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ الأُمُورُ دَفَعَتْ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ لِأَنْ يَخْتَارَ هَذَا المَقَامَ وَالمَنْصِبَ الشَّاقَّ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الحَقِّ فَقَالَ للمَلِكِ: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِارْتِبَاطِ النَّاسِ بِالمَالِ، وَأَثَرِ المَالِ في حَيَاةِ النَّاسِ، وَبِهَذَا المَالِ يَسْتَغِلُّ حَاجَتَهُمْ في دَعْوَتِهِمْ إلى اللهِ تعالى، كَمَا اسْتَغَلَّ حَاجَةَ صَاحِبَيْ السِّجْنِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ مِنْ قَوْلِ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾. أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ مَنَّ اللهُ تعالى عَلَيْهِ بِالمَالِ، وَجَعَلَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الخَزَائِنِ العَامَّةِ أَو الخَاصَّةِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ تعالى فِيمَا وَلِيَ، وَلْيَتَذَكَّرْ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ـ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ـ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: اسْتَغِلُّوا الفُرَصَ وَاسْتَثْمِرُوهَا في دَعْوَةِ النَّاسِ إلى اللهِ تعالى، وَلْنَكُنْ مِنَ الأُمَنَاءِ عَلَى مَا اسْتَرْعَانَا اللهُ تعالى مِنَ الآخَرِينَ، وَلْنَذْكُرْ جَمِيعَاً قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه الإمام مسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ أَهْلِ الأَمَانَةِ وَالحِفْظِ وَالعِلْمِ، وَسَدَّدَنَا في جَمِيعِ شُؤُونِنَا. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 26/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 23/ كانون الأول / 2019م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

15-01-2024 1054 مشاهدة
85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد

 15-01-2024
 
 1054
31-07-2023 941 مشاهدة
84ـ عروة بن الزبير رضي الله عنه

مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد

 31-07-2023
 
 941
08-05-2023 1333 مشاهدة
83ـ شريح القاضي

ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد

 08-05-2023
 
 1333
19-04-2023 813 مشاهدة
82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد

 19-04-2023
 
 813
14-04-2023 657 مشاهدة
81ـ أتحلف من أجل درهمين

وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد

 14-04-2023
 
 657
11-04-2023 788 مشاهدة
80ـ حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته

يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد

 11-04-2023
 
 788

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5702
المقالات 3230
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424047205
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :