29ـ بدأت محنة إخوة يوسف عليه السلام
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ عَلَّمَتْنَا قِصَّةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَنَّ الشَّدَائِدَ لَا تَدُومُ، وَأَنَّ المِحَنَ لَا تَدُومُ، وَأَنَّ الظُّلْمَ لَا يَدُومُ، وَعَلَى الإِنْسَانِ البَصِيرِ العَالِمِ العَارِفِ بِكِتَابِ رَبِّهِ أَنْ يَصْبِرَ وَيُصَابِرَ، لِأَنَّ العَاقِبَةَ للمُتَّقِينَ، لِأَنَّ العَاقِبَةَ للمُحْسِنِينَ، لِأَنَّ العَاقِبَةَ لِأَصْحَابِ الأَخْلَاقِ السَّامِيَةِ الرَّفِيعَةِ، لِأَنَّ العَاقِبَةَ لِمَنْ دَفَعَ السَّيِّئَةَ بِالحَسَنَةِ.
نَعَمْ، لَقَدِ انْتَهَتْ مِحْنَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَجَاءَتْ مِحْنَةُ إِخْوَتِهِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ المِحْنَتَيْنِ، مِحْنَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ تَجَلَّى فِيهَا الصَّبْرُ عَلَى إِيذَاءِ الإِخْوَةِ وَإِيذَاءِ الآخَرِينَ، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ التَّمْكِينَ في الأَرْضِ، وَالسِّيَادَةَ وَالرِّيَادَةَ، وَعُلُوَّ المَكَانَةِ وَالمَنْزِلَةِ.
أَمَّا مِحْنَةُ إِخْوَتِهِ، تَجَلَّتْ فِيهَا الحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ وَالخَجْلَةُ وَتَنْكِيسُ الرَّأْسِ وَالإِقْرَارُ بِالظُّلْمِ الذي صَدَرَ مِنْهُمْ، وَطَلَبُ السَّمَاحِ وَالاسْتِغْفَارِ.
﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ﴾:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾. هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ جَاءَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾. حَيْثُ طُوِيَتْ صَفَحَاتٌ فِيمَا مَضَى وَانْتَهَتْ مَرَاحِلُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، هَذِهِ القِصَّةِ العَجِيبَةِ.
وَهَا هِيَ مَرْحَلَةٌ جَدِيدَةٌ وَصَفْحَةٌ جَدِيدَةٌ يَفْصِلُ بَيْنَهَا بِضْعُ سَنَوَاتٍ ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾. مَتَى جَاءُوا؟
الذي يَقْرَأُ الآيَاتِ المُتَتَابِعَةَ بَعْدَ لِقَاءِ سَيِّدِنَا يُوْسُفَ عَلَيْهِ وَعَلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ بِالمَلِكِ، قَدْ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُ فَوْرَ دُخُولِهِ عَلَى المَلِكِ، وَفَوْرَ رِئَاسَتِهِ دَخَلَ إِخْوَتُهُ عَلَيْهِ، وَالأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ العَطْفَ جَاءَ بِالوَاوِ لَا بِالفَاءِ، فَقَدْ قَالَ تعالى: ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾. وَالوَاوُ لَا تُفِيدُ التَّعْقِيبَ وَالتَّرْتِيبَ كَمَا تُفِيدُ الفَاءُ.
وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ إِخْوَةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ جَاءُوا بَعْدَ سَنَوَاتِ الشِّدَّةِ، وَبَعْدَ تَأْثِيرِهَا أَيْضَاً، وَرُبَّمَا مَضَتْ سَنَةٌ أَو سَنَتَانِ مِنْ سَنَوَاتِ الشِّدَّةِ.
وَالشَّاهِدُ مِنْ هَذَا هُوَ أَنَّ القُرْآنَ الكَرِيمَ يُرَكِّزُ عَلَى المَشَاهِدِ المُؤَثِّرَةِ، وَيُرَكِّزُ عَلَى الأَحْدَاثِ التي تَكُونُ فِيهَا العِبَرُ العَظِيمَةُ مَعَ اخْتِصَارِ غَيْرِهَا.
وَهَذَا دَرْسٌ نَسْتَفِيدُ مِنْهُ في مَنْهَجِ كِتَابَاتِنَا، وَخَاصَّةً بِكِتَابَةِ التَّارِيخِ أَو القِصَصِ، حَيْثُ يَجِبُ التَّرْكِيزُ عَلَى المَوَاقِفِ وَالقَضَايَا المُؤَثِّرَةِ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الإِتْيَانُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، فَكَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ يَقُولُهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَغْنِي عَنِ الكَثِيرِ مِنَ الكَلَامِ، وَتُصْبِحُ مِنْهَاجَاً في الحَيَاةِ كُلِّهَا.
عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ، مَا رواه الإمام مسلم عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلَاً لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدَاً بَعْدَكَ.
قَالَ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، فَاسْتَقِمْ».
وَجَاءَ إِخْوَةُ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ وَهُمْ جِيَاعٌ، فَعَرَفَهُمْ، بِمُجَرَّدِ الدُّخُولِ عَلَيْهِ عَرَفَهُمْ، لِأَنَّ العَطْفَ جَاءَ بِحَرْفِ الفَاءِ الذي يُفِيدُ التَّعْقِيبَ وَالتَّرْتِيبَ، عَرَفَهُمْ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، لِأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ طِفْلَاً.
وَهُنَا تَحَقَّقَ الوَعْدُ الإِلَهِيُّ الذي لَا يُخْلَفُ، أَلَمْ يَقُلِ اللهُ تعالى في بِدَايَةِ القِصَّةِ: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.
اسْتَضَافَهُمْ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمُ الضِّيَافَةَ، وَزَادَهُمْ بِالعَطَاءِ عَلَى أَمْثَالِهِمْ مِنْ طَالِبِي المِيرَةِ، فَاسْتَأْنَسُوا إِلَيْهِ وَفَاضُوا في الحَدِيثِ مَعَهُ، وَحَدَّثُوهُ عَنْ أَنْسَابِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ وَأَحْوَالِهِمُ العَائِلِيَّةِ، مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ، وَحَدَّثُوهُ عَنْ أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَنْ جَدِّهِمْ إِسْحَاقَ، ثُمَّ عَنْ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَهُنَا قَامَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ بِتَوْجِيهِ الأَمْرِ لِفِتْيَانِهِ بِأَنْ يَرُدُّوا لَهُمْ سِرَّاً مَا دَفَعُوهُ مِنْ قِيمَةِ المِيرَةِ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِأَخِيهِمْ مِنْ أَبِيهِمْ، قَالَ تعالى عَنْ هَذَا المَوْقِفِ: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: حَقَّاً مَوَاقِفُ رَهِيبَةٌ تُفِيدُ بِأَنْ يَكُونَ الإِنْسَانُ مُحْسِنَاً لَا مُسِيئَاً.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ المُحْسِنِينَ. آمين.
تاريخ الكلمة
** ** **
الاثنين: 18/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 13/ كانون الثاني / 2020م
ارسل إلى صديق |
الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد
مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد
ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد
حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد
وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد
يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد