39ـ ﴿إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا﴾
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتِيجَةُ الصَّبْرِ مُشَرِّفَةٌ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
فَمَنْ صَبَرَ في الشَّدَائِدِ، وَكَظَمَ غَيْظَهُ، وَضَبَطَ نَفْسَهُ بِضَوَابِطِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ المُنْتَصِرُ في جَمِيعِ المَوَاقِفِ، وَلَنْ يُغْلَبَ بِإِذْنِ اللهِ تعالى، أَمَّا مَنْ هَزَمَتْهُ نَفْسُهُ فَلَنْ يَهْزِمَ عَدُوَّهُ.
سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ انْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ أَمَامَ امْرَأَةِ العَزِيزِ، وَانْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَمَا دَعَاهُ المَلِكُ للخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ فَلَمْ يَنْتَقِمْ، بَلْ لَمْ يَجْرَحْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ امْرَأَةَ العَزِيزِ وَزَوْجَهَا، وَانْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾.
﴿إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا﴾:
بَلْ لَقَدِ انْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ بِصِدْقِهِ المُتَنَاهِي الدَّقِيقِ، تَدَبَّرُوا قَوْلَهُ تعالى حِكَايَةً عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَنْ إِخْوَتِهِ: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
نَعَمْ، لَقَدْ أَقَرُّوا بِإِحْسَانِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ أَنَّهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُحْسِنٌ عِنْدَمَا عَرَفُوهُ، وَمُحْسِنٌ إِذْ هُمْ بِهِ جَاهِلُونَ، وَمُحْسِنٌ عِنْدَمَا أَسَاءُوا إِلَيْهِ، فَلَمْ يُقَابِلِ الإِسَاءَةَ بِالإِسَاءَةِ، كُلُّ هَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِسَبَبِ الانْتِصَارِ عَلَى النَّفْسِ.
عِنْدَمَا قَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. هُوَ عَزِيزٌ وَمُحْسِنٌ، وَمِنْ عِزَّتِهِ وَإِحْسَانِهِ أَجَابَهُمْ قَائِلًا: ﴿مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾. صِدْقٌ لَا مَثِيلَ لَهُ؛ مَا قَالَ: مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ سَرَقَ.
لِأَنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ أَخَاهُ لَمْ يَسْرِقْ، إِنَّمَا قَالَ: ﴿مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ﴾. فَلَمْ يَتَّهِمْهُ بِالسَّرِقَةِ، دِقَّةُ تَعْبِيرٍ مُتَنَاهِيَةٌ بِالحَدِيثِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسِرِّ انْتِصَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ في المَوَاقِفِ كُلِّهَا.
﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ﴾. لَقَدْ تَوَسَّلُوا إلى سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ بِشَيْخُوخَةِ أَبِيهِمْ وَبِكِبَرِ سِنِّ وَالِدِهِمْ، لِأَنَّ الكَبِيرَ لَهُ حَقٌّ مَعْرُوفٌ وَخَاصَّةً عِنْدَ المُحْسِنِينَ.
وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرِ الْكَبِيرَ» رواه الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
قَوْلُهُمْ: ﴿إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا﴾. يُفِيدُ بِأَنَّ العَلَاقَةَ الأُسَرِيَّةَ وَالأَخَوِيَّةَ مُقَطَّعَةٌ بَيْنَهُمْ، فَلَا صِلَةَ وَلَا تَوَاصُلَ وُدِّيٍّ حَقِيقِيٍّ، فَتَنَصَّلُوا مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ صَاحَبَهُمْ بِالسَّفَرِ، فَقَالُوا: ﴿إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ﴾. وَلَمْ يَقُولُوا: إِنَّ أَبَانَا رَجُلٌ كَبِيرٌ، وَأَبُونَا سَيُهْلِكُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، قَالُوا: ﴿فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ﴾. ﴿قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَا يُطْفِئُ نَارَ الحَسَدَ إِلَّا المَحَبَّةُ القِوِيَّةُ المَانِعَةُ وَالإِحْسَانُ، وَيَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ حَسَدَ الإِخْوَةِ مَهْمَا طَالَ مَآلُهُ إلى زَوَالٍ، وَعَوَامِلُ زَوَالِهِ أَقْوَى مِنْ عَوَامِلِ بَقَائِهِ.
وَهُنَا وَقَفَ الإِخْوَةُ مَوْقِفَ الحَائِرِ مِنْ أَمْرِهِ، وَدَفَعَتْهُمُ الحِيَرَةُ إلى أَنْ تَعُودَ قُلُوبُهُمْ إلى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَيُقِرُّوا وَيَعْتَرِفُوا بِمَا حَصَلَ سَابِقًا، قَالَ تعالى عَنْ هَذَا المَوْقِفِ: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَرْزُقَنَا قُلُوبًا تَقِيَّةً نَقِيَّةً سَالِمَةً. آمين.
تاريخ الكلمة
** ** **
الاثنين: 29/ ذو القعدة /1441هـ، الموافق: 20/ تموز / 2020م
ارسل إلى صديق |
الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد
مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد
ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد
حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد
وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد
يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد