34ـ ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ الأُمُورِ المُسَلَّمِ فِيهَا أَنَّ الغَايَةَ لَا تُبَرِّرُ الوَسِيلَةَ، فَكَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الغَايَةُ مَشْرُوعَةً، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الوَسِيلَةُ مَشْرُوعَةً، وَالقَاعِدَةُ الفِقْهِيَّةُ تَقُولُ: الوَسَائِلُ لَهَا حُكْمُ المَقَاصِدِ. هذا أولاً.
ثانياً: الشَّرِيعَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَحْصِيلِ المَصَالِحِ وَدَرْءِ المَفَاسِدِ. اهـ.
وَالوَاجِبُ تَحْصِيلُ المَصَالِحِ وَتَكْمِيلُهَا، وَتَعْطِيلُ المَفَاسِدِ وَإِلْغَاءُهَا، وَإِذَا تَعَارَضَتِ المَصَالِحُ كَانَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ المَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَدَفْعُ أَعْظَمِ المَفَسَدَتَيْنِ مَعَ احْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا.
وَقَالُوا: لَيْسَ العَاقِلُ الذي يَعْلَمُ الخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، إِنَّمَا العَاقِلُ الذي يَعْلَمُ خَيْرَ الخَيْرَيْنِ، وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ اللهُ تعالى عَنِ الخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ خَرَقَ السَّفِينَةَ التي كَانَتْ لِمَسَاكِينَ، حَتَّى لَا يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا المَلِكُ الظَّالِمُ الذي يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبَاً مِنْ أَصْحَابِهَا، مَعَ أَنَّ خَرْقَهَا مَفْسَدَةٌ، وَلَكِنَّهُ بِخَرْقِهَا دَفَعَ مَفْسَدَةً هِيَ أَعْظَمُ مِنَ الخَرْقِ، وَهِيَ ذَهَابُ السَّفِينَةِ بِأَسْرِهَا، وَاسْتِيلَاءُ الظَّالِمِ عَلَيْهَا، فَجَازَ دَفْعُ تِلْكَ المَفْسَدَةِ العَظِيمَةِ بِمَا هُوَ أَقَلَّ مِنْهَا، وَهُوَ الخَرْقُ الذي يُمْكِنُ إِصْلَاحُهُ، قَالَ تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَ قِصَّةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ حِينَ أَبْقَى أَخَاهُ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ لِمَصْلَحَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ مَعَ إِخْوَتِهِ فِيهِ مَفْسَدَةٌ ظَاهِرَةٌ، حَيْثُ كَانُوا يُسِيئُونَ إِلَيْهِ وَيَظْلِمُونَهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَ قِصَّةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ عِنْدَمَا رَمَاهُمْ بِالسَّرِقَةِ لِمَا في ذَلِكَ مِنَ المَصْلَحَةِ في إِمْسَاكِ أَخِيهِ، وَرَمْيُهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ بَابِ المَعَارِيضِ، لِأَنَّهُمْ سَرَقُوهُ مِنْ أَبِيهِمْ وَأَلْقَوْهُ في غَيَابَةِ الجُبِّ.
انْظُرُوا في دِقَّةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ عِنْدَمَا تَحَدَّثَ عَنْ هَذَا ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾. مَا حَدَّدَ مَا سَرَقُوا.
﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: بَعْدَ أَنِ الْتَقَى الأَحِبَّةُ مَعَ بَعْضِهِمْ، قَالَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ لِأَخِيهِ: ﴿إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. وَالمَقْصُودُ بِالأُخُوَّةِ هُنَا الأُخُوَّةَ الخَاصَّةَ، فَهُمَا شَقِيقَانِ.
وَكَأَنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهِ بِالاطْمِئْنَانِ إِزَاءَ مَا سَيَفْعَلُهُ مَعَهُمْ، لَا إِرْهَاباً وَلَا انْتِقَاماً، فَمَعَاذَ اللهِ أَنْ يَكُونَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مُنْتَقِماً جَبَّاراً، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْقَى أَخُوهُ بِجَانِبِهِ، وَلِيُخَلِّصَهُ مِنَ الإِسَاءَاتِ، وَلِيَسْتَمْتِعَ كِلَاهُمَا بِالأُخُوَّةِ الرَّفِيقَةِ القَرِيبَةِ.
قَامَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ بِتَجْهِيزِهِمُ الجَهَازَ الذي جَاءُوا طَامِعِينَ بِأَنْ يَزِيدَهُمْ كَيْلَ بَعِيرٍ، وَحَقَّقَ لَهُمْ مَا يَبْتَغُونَ، وَرَتَّبَ لَهُمْ أَمْراً لِيَكُونَ سَبَباً في أَخْذِ أَخِيهِ، فَجَعَلَ الصُّوَاعَ الذي يُكَالُ بِهِ في رَحْلِ أَخِيهِ، قَالَ تعالى عَنْ هَذَا المَوْقِفِ: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿بِجَهَازِهِمْ﴾ أَيْ: الجَهَازُ الذي ابْتَغَوْهُ وَأَرَادُوهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ، فَحَمَّلَهُمْ حَاجَاتِهِمْ، وَحَمَّلَ إِبِلَهُمْ بِالطَّعَامِ وَالمِيرَةِ.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ السِّقَايَةُ هِيَ المِشْرَبَةُ التي يَشْرَبُونَ بِهَا، وَتُسَمَّى صُوَاعاً لِأَنَّهَا تُسْتَخْدَمُ للكَيْلِ، وَلَا مَانِعَ للإِنْسَانِ المُقْتَصِدِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ أَمْراً وَاحِداً في حَاجَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَخُصُوصاً إِذَا كَانَتْ غَالِيَةً في ذَاتِهَا، وَالسِّقَايَةُ هَذِهِ كَانَتْ مُرَصَّعَةً بِالجَوَاهِرِ.
قَالَ تعالى: ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾. بَعْدَ أَنْ تَحَرَّكَتِ القَافِلَةُ جَمِيعَاً وَالفَرْحَةُ تَعُمُّهُمْ حَيْثُ رَجَعُوا بِأَخِيهِمْ، وَازْدَادُوا كَيْلَ بَعِيرٍ، فَإِذَا بِمُنَادٍ يُنَادِي: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾. العِيرُ: اسْمُ الإِبِلِ التي عَلَيْهَا الأَحْمَالُ، وَنُودِيَ بِالعِيرِ وَأُرِيدَ رَاكِبُوهَا، أَيَّتُهَا العِيرُ الشَّامِيَّةُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ.
وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ وَلَيْسَ كَذِباً، فَهُمُ الذينَ سَرَقُوا يُوسُفَ مِنْ أَبِيهِمْ، الذي كَانَ أَعَزَّ وَلَدٍ عِنْدَهُ ﴿قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ﴾. يَعْنِي: الْتَفَتُوا جَمِيعَاً نَحْوَ الصَّوْتِ، وَقَالُوا: أَيُّ شَيْءٍ ضَاعَ مِنْكُمْ، وَتَبْحَثُونَ عَنْهُ؟ ﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾. أَضَافُوا الصُّوَاعَ للمَلِكِ حَتَّى يَأْخُذَ أَهَمِّيَّةَ التَّفْتِيشِ، ثُمَّ رَغَّبَ المُنَادِي مِنْ أَجْلِ إِعَادَةِ الصُّوَاعِ بِجَائِزَةٍ وَهِيَ حِمْلُ بَعِيرٍ، وَهُوَ كَفِيلٌ وَضَامِنٌ لَهُ، وَبِدُونِ عِقَابٍ، فَقَالَ:﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾.
فَرَدَّ القَوْمُ الاتِّهَامَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِمْ: ﴿تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾.
فَجَاءَ الجَوَابُ: ﴿فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ﴾.
أَجَابُوا: ﴿جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾.
وَهُنَا انْقَلَبَ الفَرَحُ إلى تَرَحٍ، وَبَدَأَ الحِوَارُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ المُنَادِي، وَبِحِكْمَةِ المُنَادِي حَوَّلَ الخُصُومَ إلى قُضَاةٍ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.
نَسْأَلُ اللهَ تعالى الحِفْظَ وَالسَّلَامَةَ. آمين.
تاريخ الكلمة
** ** **
الاثنين: 23/ جمادى الآخرة /1441هـ، الموافق: 17/ شباط / 2020م
ارسل إلى صديق |
الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد
مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد
ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد
حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد
وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد
يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد