21ـ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ (2)

21ـ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ (2)

21ـ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾.

نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ الكَرِيمَةُ في حَقِّ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، الذي آذَى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِيذَاءً شَدِيدًا.

كَانَ رَجُلًاً عَنِيدًا، وَكَانَ عِنْدَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الوَلَدِ، وَكَانَ تَاجِرًا، ذَا مَالٍ كَبِيرٍ في مَكَّةَ، كَانَ يَكْسُو الكَعْبَةَ سَنَةً، وَكَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَجْتَمِعُونَ في كِسْوَتِهَا سَنَةً.

كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الذَّهَبِ مَا يُقْسَمُ بِالفُؤُوسِ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْضُرَ نَوَادِيَ مَكَّةَ، أَو وَلَائِمَ المُشْرِكِينَ، جَعَلَ خَمْسَةً مِنْ أَبْنَائِهِ عَنْ يَمِينِهِ، وَخَمْسَةً عَنْ يَسَارِهِ؛ وَلَكِنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، إِذْ كَانَ يُتْلَى القُرْآنُ الكَرِيمُ عَلَى مَسَامِعِهِ ولم يُؤْمِنْ، وَسَيَبْقَى عِبْرَةً لِغَيْرِهِ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ، إِذْ قَالَ تعالى في حَقِّهِ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾.

قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾:

هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ فِيهَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنَ اللهِ تعالى، لَا مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّ الحَقَّ تعالى يُسَلِّي فُؤَادَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا آذَاهُ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، فَيَقُولُ لَهُ: دَعْنِي مَعَ مَنْ خَلَقْتُهُ وَحِيدًا، لَا أَنْصَارَ لَهُ، وَلَا أَبْنَاءَ، وَلَا أَعْوَانَ، وَلَا مَالَ، وَلَا قُوَّةَ ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ﴾.

دَعْنِي مَعَ هَذَا العَبْدِ الذي أَمْدَدْتُهُ بِالمَالِ وَالوَلَدِ وَالأَصْحَابِ وَالأَعْوَانِ، وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى تَجْرِيدِهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَيَّ كَمَا خَلَقْتُهُ ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلِمَنْ تَبِعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَلِكُلِّ دَاعٍ إلى اللهِ تعالى، إِذَا وَاجَهَ مَنْ يُعَانِدُ وَيُكَابِرُ وَيَقِفُ في سَبِيلِ الدَّعْوَةِ صَادًّا مُعَارِضًا مُحَارِبًا لَهَا، أَنْ يَدَعَ مُوَاجَهَةَ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الجَاحِدِينَ المُعَانِدِينَ ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾.

فَالحَقُّ تَبَارَكَ وتعالى يَأْمُرُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالإِعْرَاضِ عَنْ هَذَا الجَاحِدِ المُعَانِدِ، وَأَنْ يَدَعَهُ للهِ تعالى، وَأَنْ يَصْبِرَ عَلَى أَذَاهُ، كَمَا قَالَ لَهُ تعالى في سُورَةِ المُزَّمِّلِ: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا﴾.

وَكَمَا قَالَ تعالى في سُورَةِ القَلَمِ: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

هَذِهِ الآيَاتُ الكَرِيمَةُ أَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ أَخَذَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ نَتِيجَتَهُ في الآخِرَةِ وَهُوَ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ بِقَرَارٍ مِنَ اللهِ تعالى سَوْفَ يَصْلَى سَقَرَ، وَأَنَّهُ مِنَ الخَالِدِينَ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ.

هَذِهِ الآيَاتُ هِيَ مِنْ أَوَائِلِ الآيَاتِ وَالسُّوَرِ التي نَزَلَتْ، وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ سَيِّدِنَا مُحَمَدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَنَّ اللهَ تعالى نَاصِرٌ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَو نِفَاقًا، كَمَا أَنَّ أَبَا لَهَبٍ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ نِفَاقًا، مَعَ مُحَاوَلَتِهِمَا تَكْذِيبَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَن يُشَرِّفَنَا بِخِدْمَةِ دِينِ اللهِ تعالى، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الإِخْلَاصَ وَالقَبُول، وَحُسْنَ الخِتَامِ. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 17/ رجب /1441هـ، الموافق: 12/آذار / 2020م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  تفسير القرآن العظيم

05-11-2020 1120 مشاهدة
26ـ ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾

﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ إِشَارَةً إلى المُعَذَّبِينَ في نَارِ جَهَنَّمَ، حَيْثُ يُشْرِفُ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ في سَقَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ المَلَائِكَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ... المزيد

 05-11-2020
 
 1120
30-10-2020 1017 مشاهدة
25ـ ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾

بَعْدَ القَرَارِ النِّهَائِيِّ الذي تَوَصَّلَ إِلَيْهِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ في حَقِّ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَفي حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ تَفْكِيرٍ وَتَقْدِيرٍ وَتَرَيُّثٍ ... المزيد

 30-10-2020
 
 1017
30-10-2020 818 مشاهدة
72ـ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾

إِنَّ حَالَةَ الكِبَرِ هِيَ الحَالَةُ التي يَحْتَاجَانِ فِيهَا إلى بِرِّ الوَلَدِ، وَذَلِكَ لِتَغَيُّرِ الحَالِ عَلَيْهِمَا بِالضَّعْفِ وَالكِبَرِ، لِذَا أَلْزَمَ الشَّارِعُ في هَذِهِ الحَالِةِ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا ... المزيد

 30-10-2020
 
 818
22-10-2020 874 مشاهدة
24ـ ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾

التَّفْكِيرُ هُوَ العَمَلُ البَدَهِيُّ للعَقْلِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ مِنْ وُجُودِ عَقْلٍ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ، لِأَنَّ العَقْلَ المَشْلُولَ لَيْسَ بِعَقْلٍ، بَلْ هُوَ جِهَازٌ مُعَطَّلٌ، وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. ... المزيد

 22-10-2020
 
 874
15-10-2020 1555 مشاهدة
23ـ ﴿كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾

لَقَدْ دَلَّتْ رِوَايَاتُ أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَاتِ عَلَى أَنَّ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ قَدْ أَدْرَكَ عَظَمَةَ مَا سَمِعَ مِنْ آيَاتِ القُرْآنِ المَجِيدِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ البَشَرِ، وَعَبَّرَ عَنْ دَهْشَتِهِ، وَلَكِنَّهُ ... المزيد

 15-10-2020
 
 1555
08-10-2020 1222 مشاهدة
22ـ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ (3)

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾. هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿ذَرْنِي ... المزيد

 08-10-2020
 
 1222

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5600
المقالات 3113
المكتبة الصوتية 4651
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 410681454
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2023 
برمجة وتطوير :