22ـ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ (3)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾. هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾. يَعْنِي: دَعْنِي وَاتْرُكْنِي مَعَ مَنْ خَلَقْتُهُ وَحِيدًا، لَا نَصِيرَ لَهُ، وَلَا مُعِينَ، وَلَا شَيْءَ يَعْتَزُّ بِهِ؛ هَذَا هُوَ أَصْلُ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَالأَصْلُ في كُلِّ ذِي حَيَاةٍ، وَكُلِّ مَخْلُوقٍ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَدَّهُ اللهُ تعالى بِالأَبْنَاءِ، وَالأَمْوَالِ، وَالأَعْوَانِ، وَالأَنْصَارِ، وَالذي أَمَدَّ بَعْدَ إِيجَادٍ قَادِرٌ عَلَى أَخْذِ مَا أَمَدَّ بِهِ، وَقَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِ.
جَاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ في حَقِّ الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ، فَهُوَ المَقْصُودُ الأَوَّلُ مِنْهَا، فَكُلُّ مَخْلُوقٍ مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ وَغَيْرِهِمَا قَدْ خَلَقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَاجِزًا فَقِيرًا وَحِيدًا، لَا نَصِيرَ لَهُ، وَلَا مُعِينَ، مُحْتَاجًا في أَسْبَابِ حَيَاتِهِ وَبَقَائِهِ مَدَدًا مِنْ مُوجِدِهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُمِدَّهُ إِلَّا الذي أَوْجَدَهُ.
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾. أُسْلُوبٌ يَتَضَمَّنُ التَّهْدِيدَ وَالوَعِيدَ الشَّدِيدَ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ، وَهُوَ وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِ مُوَاجَهَتِهِمْ، وَخَاصَّةً في المَرْحَلَةِ الأُولَى مِنْ دَعْوَتِهِ.
وَقَدْ أَكَّدَ اللهُ تعالى عَلَى هَذَا المَعْنَى بِآيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾.
وَكَقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا﴾: أَيْ: جَعَلْتُ لَهُ مَالًا كَثِيرًا، يَزْدَادُ بِالمَدَدِ حِينًا فَحِينًا، وَقَدْ كَانَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ مِنْ أَغْنَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَدْ كَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الإِبِلِ وَالغَنَمِ وَالعَبِيدِ وَالجِنَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَمْوَالِ.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَبَنِينَ شُهُودًا﴾ أَيْ: وَجَعَلْتُ لَهُ بَنِينَ شَاهِدِينَ حَاضِرِينَ لَيْسُوا غَائِبِينَ عَنْ مَكَانَ إِقَامَتِهِ، فَهُمْ أَعْوَانُهُ وَأَنْصَارُهُ، يَسْتَعِينُ بِهِمْ، وَيَسْتَدْعِيهِمْ لِنُصْرَتِهِ في كُلِّ وَقْتٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلى النُّصْرَةِ، وَيَعْتَزُّ بِهِمْ، وَيَفْتَخِرُ إِذْ هُمْ شُهُودُ مَجَالِسِهِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ مِنَ الوَلَدِ عَشَرَةٌ أَو أَكْثَرَ.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا﴾ أَيْ: بَسَطْتُ لَهُ في العَيْشِ بَسْطًا حَتَّى أَقَامَ حَيْثُ أَقَامَ مُطْمَئِنًّا مُتَرَفِّهًا، وَصَارَ بِذَلِكَ سَيِّدًا يُرْجَعُ إلى رَأْيِهِ.
التَّمْهِيدُ: البَسْطُ، وَالتَّسْوِيَةُ، وَالتَّسْهِيلُ، وَالعِنَايَةُ بِهِ، كُلُّ هَذَا مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى عَبْدِهِ، فَإِنْ شَكَرَ العَبْدُ هَذِهِ النِّعَمَ كَانَتْ بِحَقٍّ نِعَمًا وَدَامَتْ، وَإِنْ كَفَرَ بِهَا وَطَغَى كَانَتْ بِحَقٍّ نِقَمًا.
قَالَ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.
وَقَالَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.
هَذِهِ نِعَمٌ، وَتَبْقَى نِعَمًا مَوْصُولَةً مَا دَامَ العَبْدُ شَاكِرًا.
وَلَكِنْ بِالمُقَابِلِ، قَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾.
فَعَطَاءُ اللهِ تعالى للعَبْدِ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا اخْتِبَارٌ وَابْتِلَاءٌ، فَإِنْ شَكَرَ نَجَحَ وَأَفْلَحَ وَزَادَهُ اللهُ تعالى مِنْ فَضْلِهِ، وَإِلَّا خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا﴾.
الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ آتَاهُ اللهُ تعالى نِعْمَةَ الإِيجَادِ وَالإِمْدَادِ، فَمَا شَكَرَ، بَلْ كَفَرَ، وَظَنَّ أَنَّهُ وَرِثَ هَذَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، أَو ظَنَّ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ هَذَا، مَعَ أَنَّ اللهَ تعالى يُعْطِي هَذِهِ الدُّنْيَا لِمَنْ أَحَبَّ وَلِمَنْ لَا يُحِبُّ، لِأَنَّهَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾ يَعْنِي: كَانَ يَطْمَعُ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ بِأَنْ يَزْدَادَ مَا لَدَيْهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ وَأَنْصَارٍ، وَسَائِرِ مَحَابِّهِ مِنَ الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ مَطَالِبَهُ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا مُيَسَّرَةً وَمُسَهَّلَةً، لَا عُـسْرَ عَلَيْهِ في تَحْصِيلِهَا، لِأَنَّ اللهَ تعالى مَهَّدَ لَهُ الأُمُورَ تَمْهِيدًا زَائِدًا عَنْ أَقْرَانِهِ.
وَهَذَا الطَّمَعُ مَوْجُودٌ في الإِنْسَانِ، وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
نَسْأَلُ اللهَ تعالى رِزْقًا حَلَالًا وَاسِعًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ فِيهِ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الخميس: 24/ رجب /1441هـ، الموافق: 19/آذار / 2020م
ارسل إلى صديق |
﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ إِشَارَةً إلى المُعَذَّبِينَ في نَارِ جَهَنَّمَ، حَيْثُ يُشْرِفُ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ في سَقَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ المَلَائِكَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ... المزيد
بَعْدَ القَرَارِ النِّهَائِيِّ الذي تَوَصَّلَ إِلَيْهِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ في حَقِّ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَفي حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ تَفْكِيرٍ وَتَقْدِيرٍ وَتَرَيُّثٍ ... المزيد
إِنَّ حَالَةَ الكِبَرِ هِيَ الحَالَةُ التي يَحْتَاجَانِ فِيهَا إلى بِرِّ الوَلَدِ، وَذَلِكَ لِتَغَيُّرِ الحَالِ عَلَيْهِمَا بِالضَّعْفِ وَالكِبَرِ، لِذَا أَلْزَمَ الشَّارِعُ في هَذِهِ الحَالِةِ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا ... المزيد
التَّفْكِيرُ هُوَ العَمَلُ البَدَهِيُّ للعَقْلِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ مِنْ وُجُودِ عَقْلٍ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ، لِأَنَّ العَقْلَ المَشْلُولَ لَيْسَ بِعَقْلٍ، بَلْ هُوَ جِهَازٌ مُعَطَّلٌ، وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. ... المزيد
لَقَدْ دَلَّتْ رِوَايَاتُ أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَاتِ عَلَى أَنَّ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ قَدْ أَدْرَكَ عَظَمَةَ مَا سَمِعَ مِنْ آيَاتِ القُرْآنِ المَجِيدِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ البَشَرِ، وَعَبَّرَ عَنْ دَهْشَتِهِ، وَلَكِنَّهُ ... المزيد
يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ﴾. ... المزيد