186ـ مسائل من حاتم الأصم

186ـ مسائل من حاتم الأصم

186ـ مسائل من حاتم الأصم

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ لَهَا أَثَرٌ بَالِغٌ في سُلُوكِ الإِنْسَانِ، كَمَا أَنَّ لَهَا أَثَرَاً بَالِغًا في زِيَادَةِ إِيمَانِهِ بِاللهِ تعالى، فَضْلَاً عَنِ العِلْمِ النَّافِعِ، وَمَا سَاءَتْ أَحْوَالُ الكَثِيرِ، وَكَثُرَتْ هُمُومُهُمْ وَأَحْزَانُهُمْ بِسَبَبِ تَقَلُّبَاتِ هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، إِلَّا بِبُعْدِهِمْ عَنِ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، الذي وَصَفَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الكَمَالَ فِي دِينِهِ، وَرَاحَةً لِقَلْبِهِ وَفُؤَادِهِ.

روى أبو يعلى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟

قَالَ: «مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللهَ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِالْآخِرَةِ عَمَلُهُ».

ثَمَانِي مَسَائِلَ مِنْ حَاتِمٍ الأَصَمِّ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ في زَمَنِ الفِتَنِ، وَالغَلَاءِ، وَالحُرُوبِ، لَعَلَّ القُلُوبَ تَرْتَاحُ مِنْ هُمُومِ الأَحْدَاثِ وَالأَزَمَاتِ وَغَلَاءِ الأَسْعَارِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: حَاتِمٌ الأَصَمُّ تِلْمِيذُ شَقِيقٍ البَلْخِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ لَهُ شَقِيقٌ: مُنْذُ كَمْ صَحِبْتَنِي؟

قَالَ حَاتِمٌ: مُنْذُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً.

قَالَ: فَمَا تَعَلَّمْتَ مِنِّي في هَذِهِ المُدَّةِ؟

قَالَ: ثَمَانِي مَسَائِلَ.

قَالَ شَقِيقٌ لَهُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ؛ ذَهَبَ عُمُرِي مَعَكَ وَلَمْ تَتَعَلَّمْ إِلَّا ثَمَانِي مَسَائِلَ.

قَالَ: يَا أُسْتَاذُ، لَمْ أَتَعَلَّمْ غَيْرَهَا، وَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ أَكْذِبَ.

فَقَالَ: هَاتِ هَذِهِ الثَّمَانِي مَسَائِلَ حَتَّى أَسْمَعَهَا.

قَالَ حَاتِمٌ: نَظَرْتُ إلى هَذَا الخَلْقِ فَرَأَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ يُحِبُّ مَحْبُوبَاً، فَهُوَ مَعَ مَحْبُوبِهِ إلى القَبْرِ، فَإِذَا وَصَلَ إلى القَبْرِ فَارَقَهُ، فَجَعَلْتُ الحَسَنَاتِ مَحْبُوبِي، فَإِذَا دَخَلْتُ القَبْرَ دَخَلَ مَحْبُوبِي مَعِي.

فَقَالَ: أَحْسَنْتَ يَا حَاتِمُ، فَمَا الثَّانِيَةُ؟

فَقَالَ: نَظَرْتُ في قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾. فَعَلِمْتُ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وتعالى هُوَ الحَقُّ فَأَجْهَدْتُ نَفْسِي في دَفْعِ الهَوَى حَتَّى اسْتَقَرَّتْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تعالى.

الثَّالِثَةُ: أَنِّي نَظَرْتُ إلى هَذَا الخَلْقِ فَرَأَيْتُ كُلَّ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ لَهُ قِيمَةٌ وَمِقْدَارٌ رَفَعَهُ وَحَفِظَهُ ثُمَّ نَظَرْتُ إلى قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ﴾. فَكُلَّمَا وَقَعَ مَعِيَ شَيْءٌ لَهُ قِيمَةٌ وَمِقْدَارٌ وَجَّهْتُهُ إلى اللهِ لِيَبْقَى عِنْدَهُ مَحْفُوظَاً.

الرَّابِعَةُ: أَنِّي نَظَرْتُ إلى هَذَا الخَلْقِ فَرَأَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرْجِعُ إلى المَالِ وَإِلَى الحَسَبِ وَالشَّرَفِ وَالنَّسَبِ فَنَظَرْتُ فِيهَا فَإِذَا هِيَ لَا شَيْءَ، ثُمَّ نَظَرْتُ إلى قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾. فَعَمِلْتُ في التَّقْوَى حَتَّى أَكُونَ عِنْدَ اللهِ كَرِيمَاً.

الخَامِسَةُ: أَنِّي نَظَرْتُ إلى هَذَا الخَلْقِ وَهُمْ يَطْعَنُ بَعْضُهُمْ في بَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً، وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ الحَسَدُ، ثُمَّ نَظَرْتُ إلى قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. فَتَرَكْتُ الحَسَدَ وَاجْتَنَبْتُ الخَلْقَ وَعَلِمْتُ أَنَّ القِسْمَةَ مِنْ عِنْدَ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى فَتَرَكْتُ عَدَاوَةَ الخَلْقِ عَنِّي.

السَّادِسَةُ: نَظَرْتُ إلى هَذَا الخَلْقِ يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيُقَاتِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً فَرَجَعْتُ إلى قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوَّاً﴾. فَعَادَيْتُهُ وَحْدَهُ وَاجْتَهَدْتُ في أَخْذِ حَذَرِي مِنْهُ، لِأَنَّ اللهَ تعالى شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِي، فَتَرَكْتُ عَدَاوَةَ الخَلْقِ غَيْرِهِ.

السَّابِعَةُ: نَظَرْتُ إلى هَذَا الخَلْقِ فَرَأَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَطْلُبُ هَذِهِ الكِـسْرَةَ فَيُذِلُّ فِيهَا نَفْسَهُ وَيَدْخُلُ فِيمَا لَا يَحِلُّ لَهُ، ثُمَّ نَظَرْتُ إلى قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا﴾. فَعَلِمْتُ أَنِّي وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الدَّوَابِّ التي عَلَى اللهِ رِزْقُهَا فَاشْتَغَلْتُ بِمَا للهِ تعالى عَلَيَّ وَتَرَكْتُ مَا لِي عِنْدَهُ.

الثَّامِنَةُ: نَظَرْتُ إلى هَذَا الخَلْقِ فَرَأَيْتُهُمْ كُلَّهُمْ مُتَوَكِّلِينَ عَلَى مَخْلُوقٍ، هَذَا عَلَى ضَيْعَتِهِ وَهَذَا عَلَى تِجَارَتِهِ وَهَذَا عَلَى صِنَاعَتِهِ وَهَذَا عَلَى صِحَّةِ بَدَنِهِ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ مُتَوَكِّلٌ عَلَى مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ، فَرَجَعْتُ إلى قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾. فَتَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ حَسْبِي.

قَالَ شَقِيقٌ: يَا حَاتِمُ، وَفَّقَكَ اللهُ تعالى، فَإِنِّي نَظَرْتُ في عُلُومِ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالفُرْقَانِ العَظِيمِ، فَوَجَدْتُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الخَيْرِ وَالدِّيَانَةِ وَهِيَ تَدُورُ عَلَى هَذِهِ الثَّمَاني مَسَائِلَ، فَمَنِ اسْتَعْمَلَهَا فَقَدِ اسْتَعْمَلَ الكُتُبَ الأَرْبَعَةَ. /إحياء علوم الدين.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمَالُ الإِنْسَانِ، وَرَاحَةُ الإِنْسَانِ، وَسَعَادَةُ الإِنْسَانِ، بِالعِلْمِ النَّافِعِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُمَا الهُدَى وَدِينُ الحَقِّ، الإِنْسَانُ بِدُونِ العِلْمِ النَّافِعِ خَاسِرٌ، ظَلُومٌ، جَهُولٌ، كَفُورٌ، عَجُولٌ، قَتُورٌ، يَعِيشُ حَيَاةَ الشَّقَاءِ وَالضَّنْكِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ العِلْمُ النَّافِعُ الذي يُرِيحُ القَلْبَ وَالفُؤَادَ إِلَّا بِصُحْبَةِ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ الذينَ يَنْهَضُونَ بِحَالِ العَبْدِ.

اللَّهُمَّ دُلَّنَا عَلَى مَنْ يَدُلُّنَا عَلَيْكَ، وَأَوْصِلْنَا بِالذي يُوصِلُنَا إِلَيْكَ، وَنَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا عِلْمَاً نَافِعَاً. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الجمعة: 1/ شعبان /1443هـ، الموافق: 4/ آذار / 2022م

 2022-03-04
 2340
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

09-04-2024 95 مشاهدة
212ـ كيف تستقبل العيد أنت؟

هَا هُوَ يَوْمُ العِيدِ قَدْ جَاءَ بَعْدَ طَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، بَعْدَ رُكْنٍ عَظِيمٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، كَيْفَ لَا يَأْتِي يَوْمُ عِيدٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ شَهْرٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَتِنَا؟ ... المزيد

 09-04-2024
 
 95
13-03-2024 258 مشاهدة
211ـ القرآن أنيسنا

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 13-03-2024
 
 258
09-02-2024 503 مشاهدة
210ـ انظر عملك في شهر شعبان

أَخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ ... المزيد

 09-02-2024
 
 503
13-01-2024 307 مشاهدة
209ـ اغتنام ليل الشتاء

الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ، وَفُرْصَةُ تَزَوُّدٍ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ، قَالَ تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.  الأَيَّامُ تَتَعَاقَبُ وَتَتَوَالَى، وَهَا نَحْنُ في الشِّتَاءِ، فَلْنَسْمَعْ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ ... المزيد

 13-01-2024
 
 307
14-12-2023 444 مشاهدة
208ـ ماذا جرى لهذه الأمة؟

مَاذَا جَرَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ؟ هَلْ تَفْقِدُ ذَاكِرَتَهَا وَتَجْلِسُ مَعَ عَدُوِّهَا تَبْحَثُ عَنْ سَلَامٍ وَعُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ؟ يَذْبَحُهَا عَدُوُّهَا بِالأَمْسِ، فَتَمُدُّ لَهُ ذِرَاعَ المُصَافَحَةِ اليَوْمَ. يَصْفَعُهَا بِالأَمْسِ، ... المزيد

 14-12-2023
 
 444
16-11-2023 545 مشاهدة
207ـ لا تزال الأمة تبتلى

مَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ وَالمَجَازِرُ الدَّمَوِيَّةُ تُرْتَكَبُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَفي غَزَّةَ خَاصَّةً شَمَلَتِ الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ الضُّعَفَاءَ وَالآمِنِينَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ ... المزيد

 16-11-2023
 
 545

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413492819
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :