17ـ غزوة بدر الكبرى والحرب النفسية

17ـ غزوة بدر الكبرى والحرب النفسية

17ـ غزوة بدر الكبرى والحرب النفسية

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَامَتْ قُرَيْشٌ بِالحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ عَلَى المُسْلِمِينَ بَعْدَ فَشَلِهَا في إِثَارَةِ الفِتْنَةِ في المَدِينَةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَالمُشْرِكِينَ، أَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ رِسَالَةً إلى المُسْلِمِينَ، قَالَتْ: لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَنَّكُمْ أَفْلَتُّمُونَا إلى يَثْرِبَ، سَنَأْتِيكُمْ فَنَسْتَأْصِلَكُمْ وَنُبِيدَ خَضْرَاءَكُمْ في عُقْرِ دَارِكُمْ.

هَذَا أُسْلُوبٌ قَدِيمٌ وَحَدِيثٌ، وَمَا زَالَتْ قُرَيْشٌ تَسْتَخْدِمُ التَّهْدِيدَ وَالوَعِيدَ.

وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ الوَهْمِيَّةِ عَلَى المُسْلِمِينَ، إِلَّا أَنَّ المُسْلِمِينَ أَخَذُوهُ مَأْخَذَ الجِدِّ وَالاعْتِبَارِ، فَالعَقْلُ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَغْزُوَ قُرَيْشٌ المَدِينَةَ المُنَوَّرَةَ، أَو أَنْ تُخَطِّطَ لَقَتْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ حَاوَلُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَآخِرَهَا كَانَتِ المُحَاوَلَةُ التي تَمَّتْ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِقَلِيلٍ، وَأَرَادُوا أَنْ يَضْرِبُوا عُنُقَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِينَ سَيْفًا في وَقْتٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَتَفَرَّقَ دَمُهُ بَيْنَ القَبَائِلِ كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ، وَرَصَدُوا لِمَنْ يَقْتُلُهُ أَو يَأْسِرُهُ مِئَةً مِنَ الإِبِلِ وَهُوَ مَبْلَغٌ ضَخْمٌ جِدًّا، فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَبَدًا أَنْ تَرْصُدَ قُرَيْشٌ مِئَةً مِنَ الإِبِلِ لِمَنْ يَتَسَلَّلُ إلى دَاخِلِ المَدِينَةِ؛ لِيَقْتُلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ لِذَلِكَ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَثِيرًا مَا يَبِيتُ سَاهِرًا حَذَرًا مِنْ غَدْرِ قُرَيْشٍ، وَفِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ تَعِبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَثْرَةِ السَّهَرِ.

حِرَاسَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَهِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ: «لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ».

قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلَاحٍ.

فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟».

قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا جَاءَ بِكَ؟».

قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ؛ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَامَ.

وَلَمْ تَكُنْ هذهِ الحِرَاسَةُ مُخْتَصَّةً بِبَعْضِ اللَّيَالِي، بَلْ كَانَ ذلكَ أَمْرًا مُسْتَمِرًّا، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحْرَسُ لَيْلًا، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.

فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِن القُبَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللهُ».

وَلَمْ يَكُنِ الخَطَرُ مُقْتَصِرًا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَلْ كَانَ يُحْدِقُ بالمُسْلِمِينَ كَافَّةً، فَقَد رَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ المَدِينَةَ، وَآوَتْهُمُ الأَنْصَارُ رَمَتْهُمُ العَرَبُ عَن قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانُوا لَا يَبِيتُونَ إِلَّا بِالسِّلَاحِ، وَلَا يُصْبِحُونَ إِلَّا فِيهِ.

وَنَحْنُ لَا نَنْسَى أَنَّ قُرَيْشًا رَصَدَتْ مِئَةً مِنَ الإِبِلِ لِمَنْ يَأْتِي بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، حَيًّا أَو مَيْتًا، لِأَنَّ اغْتِيَالَ الزَّعَامَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ هَدَفُ الأَعْدَاءِ، لَكِنَّ هَذَا التَّهْدِيدَ لَمْ يُجْدِ مَعَ المُسْلِمِينَ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ تَجَلَّتْ عِصْمَةُ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في وَقَائِعَ مُتَعَدِّدَةٍ:

رَوَى البَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ تَنَحَّيْتَ لَا تُؤْذِيكَ يَا رَسُولَ اللهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ سَيُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا».

فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، هَجَانَا صَاحِبُكَ؟

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذِهِ البِنْيَةِ مَا يَنْطِقُ بِالشِّعْرِ وَلَا يَتَفَوَّهُ بِهِ.

فَقَالَ: إِنَّكَ لَمُصَدَّقٌ.

فَلَمَّا وَلَّتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ: مَا رَأَتْكَ؟

قَالَ: «لَا، مَا زَالَ مَلَكٌ يَسْتُرُنِي حَتَّى وَلَّتْ».

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الثلاثاء: 18/ رمضان /1443هـ، الموافق: 19/نيسان / 2022م

 2022-04-19
 350
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  دروس رمضانية

14-03-2024 353 مشاهدة
1-مواساة لأصحاب الأعذار في رمضان

يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد

 14-03-2024
 
 353
26-05-2022 708 مشاهدة
28ـ غزوة بدر وحسرة المشركين

فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد

 26-05-2022
 
 708
26-05-2022 531 مشاهدة
27ـ غزوة بدر درس عملي لكل ظالم ومظلوم

غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد

 26-05-2022
 
 531
29-04-2022 397 مشاهدة
26ـ غزوة بدر وتواضع القائد

مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 397
29-04-2022 840 مشاهدة
25ـ هنيئًا لكم أيها الصائمون القائمون

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد

 29-04-2022
 
 840
29-04-2022 964 مشاهدة
24ـ أقوام عاشوا عيش السعداء

الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 964

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414562314
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :