25ـ السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها في الجاهلية

25ـ السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها في الجاهلية

25ـ السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها في الجاهلية

 

لمْ تَكُنِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا امْرَأَةً عَادِيَّةً في الجَاهِلِيَّةِ، بَلْ تَمَيَّزَتْ بِأَنَّهَا ذَاتُ جَاهٍ وَوَجَاهَةٍ، وَإِيمَانٍ فِطْرِيٍّ، وَسُمُوِّ نَفْسٍ، وَطَهَارَةِ سُلُوكٍ، حَتَّى سُمِّيَتْ بِالطَّاهِرَةِ، وَعُرِفَتْ بِهَذَا اللَّقَبِ قَبْلَ الإِسْلَامِ، فَهِيَ امْرَأَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ مَصَادِرِ الإِيمَانِ، تَشْعُرُ في أَعْمَاقِ نَفْسِهَا بِكَثِيرٍ مِنَ القَلَقِ نَحْوَ الوَثَنِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ، وَلِهَذَا كَانَتْ كَثِيرًا مَا تَلْجَأُ لِوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ حَتَّى قَبْلَ زَوَاجِهَا مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، تَعْرِضُ عَلَيْهِ مَنَامَاتِهَا، وَكُلَّ مَا يَمُرُّ بِهَا مِنْ إِحْسَاسٍ أَو رُؤْيَا تَرَاهَا، أَو هَاجِسٍ تُحِسُّ بِهِ، وَهِيَ بِالجُمْلَةِ في قَلَقٍ مِنْ جَوِّ الجَاهِلِيَّةِ، وَضَلَالَاتِ الوَثَنِيَّةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِدْعًا في سُلُوكِهَا، وَلَيْسَتِ الوَحِيدَةَ التي تُحِسُّ بِهَذَا الإِحْسَاسِ نَحْوَ الوَثَنِيَّةِ الجَاهِليَّةِ.

وَالسَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ أَدْنَى مَا تَكُونُ مِنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى، وَدُنُوُّهَا مِنْهُ كَانَ عَلَى نَحْوَيْنِ مِنَ الدَّمِ وَالوُدِّ الفِكْرِيِّ، وَكَانَ هَذَا الوُدُّ، أَو القَرَابَةُ الفِكْرِيَّةُ، يَنْتَزِعُ إِعْجَابَهَا بِهِ انْتِزَاعًا، وَيَحْمِلُهَا عَلَى كُلِّ لَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الخُلُودِ إِلَيْهِ، في سَكِينَةٍ وَاطْمِئْنَانٍ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عِنْدَهَا مَا بَلَغَ حَتَّى غَدَتْ أَشْبَهَ بِتِلْمِيذَةٍ، تَسْتَرْشِدُهُ وَتَسْتَنِيرُ بِرَأْيِهِ في كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهَا، مِنْ أَمْرِ نَفْسِهَا، وَشًؤُونِهَا.

وَلَا شَكَّ أَنَّ حَيَاةَ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَ فِيهَا مِنَ الفِطْرَةِ وَالنَّقَاءِ مَا أَسْهَمَ في قَبُولِهَا لِدَعْوَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، عِنْدَمَا حَدَّثَهَا بِخَبَرِ السَّمَاءِ، بَلْ إِنَّهَا وَقَفَت إلى جَانِبِهِ وَأَيَّدَتْهُ حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ هُوَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَكَانَ في خَوْفٍ وَقَلَقٍ وَاضْطِرَابٍ.

وَمَنْ يَنْظُرُ بِعُمْقٍ في هَذِهِ المَسْأَلَةِ وَيَتَأَمَّلُ في حَيَاةِ هَذِهِ السَّيِّدَةِ في الجَاهِلِيَّةِ يَرَى أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ تِلْكَ الطَّلِيعَةِ التي كَانَتْ تُفَكِّرُ وَتَتَأَمَّلُ فِيمَا يَفْعَلُهُ القَوْمُ مِنْ حَوْلِهَا، مِنْ عِبَادَةٍ للأَصْنَامِ، وَاسْتِقْسَامٍ بِالأَزْلَامِ، فَكَانَتْ تَنْفِرُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَلَا تَقْبَلُهُ، وَلَكِنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُفْصِحَ عَنْ كُلِّ مَا تُحِسُّ بِهِ، بَلْ كَانَتْ تَكْتَفِي بِالتَّفْكِيرِ العَمِيقِ، وَتَقْتَرِبُ مِنْ كُلِّ أُولَئِكَ الذينَ يَنْحَوْنَ هَذَا المَنْحَى، وَيَنْهَجُونَ هَذَا المَنْهَجَ، حَتَّى تَصِلَ إلى حَالَةٍ مِنَ الرِّضَا وَالطُّمَأْنِينَةِ، فَكَانَ النَّاسُ يَرَوْنَهَا كَثِيرَةَ التَّرَدُّدِ عَلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ تَسْتَرْشِدُهُ، وَتَسْتَهْدِيهِ، وَتَسْأَلُهُ عَنْ أُمُورٍ تَمُرُّ بِهَا في أَحْلَامِهَا، وَتَعْكِسُ مَا يَجُولُ في خَاطِرِهَا مِنْ نُفُورٍ مِنْ هَذِهِ الأَصْنَامِ، وَلِهَذَا فَمَا إِنْ رَأَتِ النُّورَ حَتَّى كَانَتْ أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَوَّلَ السَّاعِينَ إِلَيْهِ، وَأَوَّلَ المُؤَيِّدِينَ لَهُ، فَقَدْ كَانَ فِيهِ اسْتِجَابَةٌ لِكُلِّ تِلْكَ الرُّؤَى التي كَانَتْ تَرَاهَا، وَكَانَ فِيهِ إِجَابَةٌ لِكُلِّ التَّسَاؤُلَاتِ التي حَامَتْ مِنْ حَوْلِهَا.

وَمَنْ يَنْظُرُ بِعُمْقٍ في أَحْلَامِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا يَجِدُ أَنَّ الأُمُورَ اللَّافِتَةَ في أَحْلَامِهَا مَثَلًا أَنَّهَا كَانَتْ دَائِمًا بَيْضَاءَ مُشْرِقَةً، وَمَعْنَاهُ أَنَّ نُزُوعَهَا عَلَى رَغْمِ مَا يُصَدِّقُهُ، كَانَ مَشْفُوعًا بِالثِّقَةِ المَحْضِ، وَتَرَقُّبِ الانْتِصَارَ.

وَالحَقِيقَةُ أَنَّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنِ الوَحِيدَ الذي أَنْكَرَ تِلْكَ الوَثَنِيَّةَ، بَلْ هُنَاكَ جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ كَانَتْ تَقِفُ في تَرَدُّدٍ، وَبَعْضُهَا في خَجَلٍ، وَمُعْظَمُهَا في شَكٍّ مِنْ تِلْكَ الآلِهَةِ التي تُعْبَدُ في الجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يَضْرِبُ رَأْسَ الصَّنَمِ إِذَا لَمْ تَأْتِ الأُمُورُ كَمَا يَشْتَهِي، وَبَعْضُهُمْ يَأْكُلُ إِلَهَهُ بَعْدَمَا صَنَعَهُ مِنْ تَمْرٍ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الجَاهِلِيَّةِ، وَبَعْضُهُمْ يَسْخَرُ مِنْ إِلَهِهِ عِنْدَمَا يَرَى الثَّعَالِبَ تَبُولُ عَلَيْهِ، وَأَنْشَدَ شِعْرًا في ذَلِكَ يَقُولُ فِيهِ:

أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ   ***   لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ

أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفُ رَبٍّ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَلْنَقْرَأْ مَعًا هَذَا النَّصَّ لِابْنِ إِسْحَاقَ كَمَا أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ العلايلي.

حَدَّثَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ قُرَيْشًا اجْتَمَعُوا فِي عِيدٍ لَهُمْ يَوْمًا، عِنْدَ صَنَمٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ، وَيَنْحَرُونَ لَهُ، وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهُ، وَيُدِيرُونَ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ عِيدًا لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمًا، فَخَلَصَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ نَجِيًّا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَصَادَقُوا، وَلْيَكْتُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، قَالُوا: أَجَلْ، وَهُمْ: وَرَقةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنِ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ الحُوَيْرِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى، وَزَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعْلَمُونَ وَاللهِ مَا قَوْمُكُمْ عَلَى شَيْءٍ؛ لَقَدْ أَخْطَؤُوا دِينَ أَبِيهِمْ إبْرَاهِيمَ، مَا حَجَرٌ نُطِيفٌ بِهِ؟ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ؟ يَا قَوْمِ، الْتَمِسُوا لِأَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ وَاللهِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، فَتَفَرَّقُوا في البُلْدَانِ يَلْتَمِسُونَ الحَنِيفِيَّةَ، دِينَ إِبْرَاهِيمَ.

فَأَمَّا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَاسْتَحْكَمَ في النَّصْرَانِيَّةِ وَابْتَاعَ الكُتُبَ مِنْ أَهْلِهَا، حَتَّى عَلِمَ عِلْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، وَأَمَّا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ فَأَقَامَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الالْتِبَاسِ حَتَّى أَسْلَمَ، فَلَمَّا قَدِمَ الحَبَشَةَ تَنَصَّرَ، وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ الحُوَيْرِثِ فَقَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ مَلِكَ الرُّومِ فَتَنَصَّرَ، وَحَسُنَتْ عِنْدَهُ مَنْزِلَتُهُ.

وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَوَقَفَ، فَلَمْ يَدْخُلْ في يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، وَفَارَقَ دِينَ قَوْمِهِ، فَاعْتَزَلَ الأَوْثَانَ وَالمَيْتَةَ وَالدَّمَ والذَّبَائِحَ التي تُذْبَحُ عَلَى الأَوْثَانِ، وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الَموْؤودَةِ ، وَقَالَ: أَعْبُدُ رَبَّ إِبْرَاهِيمَ، وَبَادَى قَوْمَهُ بِعَيْبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ.

وَكَانَ يُرَى مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى الكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَالَّذِي نَفْسُ زَيْدٍ بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي.

ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهمَّ إِنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيْكَ عَبَدْتُكَ بِهِ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ عَلَى رَاحِلَتِهِ.

وَلَهُ شِعْرٌ كَثِيرٌ بِهَذَا المَعْنَى، وَمِنْهُ:

أَرَبًّــا وَاحِـدًا أَمْ أَلْــفَ رَبٍّ    ***   أَدِيـنُ إِذَا تُـقُـسِّـمَتِ الأُمُورُ

عَزَلْتُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى جَمِيعًا    ***   كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلْــدُ الصَّبُورُ

فَلَا الْعُزَّى أَدِينُ وَلَا ابْـنَـتَيْهَا    ***   وَلَا صَنَمَيْ بَنِي عَـمْرٍو أَزُورُ

وَلَا هُـبَــلًا أَدِينُ وَكَـانَ رَبًّـا   ***   لَنَا فِي الدَّهْرِ إذْ حِــلْمِي يَسِيرُ

عَجِبْتُ وَفِي اللَّيَالِي مُـعْجَبَاتٌ   ***   وَفِي الْأَيَّامِ يَعْرِفُهَا الــبَــصِيرُ

وَاسْتَمَرَّ بِهِ شَأْنُهُ، حَتَّى خَرَجَ يَطْلُبُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَسْأَلُ الرُّهْبَانَ وَالأَحْبَارَ، حَتَّى بَلَغَ المُوصِلَ وَالجَزِيرَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ فَجَالَ الشَّامَ جَمِيعًا، وَعَلَى أَنَّهُ شَامُ اليَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَلَمْ يَرْضَ شَيْئًا مِنْهُمَا، فَآبَ يَطْلُبُ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا تَوَسَّطَ بِلَادَ لَخْمٍ عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ.

وَيُعَلِّقُ العَلَايْلِي عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فَيَقُولُ:

هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَحْمِلُ إِلَيْنَا الكَثِيرَ الكَثِيرَ، وَتُوقِفُنَا عَلَى مَا نَوَدُّ أَنْ نَقِفَ عَلَيْهِ، وَتُرِيْنَا بِكُلِّ وُضُوحٍ مَكَانَ الرِّيَبِ وَحِدَّتَهُ مِنَ النَّفْسِ العَرَبِيَّةِ، وَمَكَانَ الضِّيقِ بِهَذَا الرَّيْبِ، وَرَغْبَةَ التَّحَرُّرِ مِنْهُ، عَلَى أَيِّ شَكْلٍ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ أَيَّ شَكْلٍ، فَهُوَ أَرْحَبُ وَأَغْنَى وَأَمْتَعُ.

وَلَا تَعْجَلْ فَتَظُنَّ أَنَّ هَذَا الاسْتِخْفَافَ المُرْتَابَ، إِنَّمَا خَالَطَ هَذَا النَّفَرَ فَحَسْبُ، فَقَدْ كَانُوا مِنْ مُجْتَمَعِهِمْ الطَّلِيعَةَ، وَمِنْ كَثْرَتِهِمْ الصَّفْوَةَ المُخْتَارَةَ، أَمَّا الجَمَاهِيرُ الغَفِيرَةُ الضَّخْمَةُ، فَقَدْ كَانَتْ قَانِعَةً مُغْتَبِطَةً، يَلَذُّ لَهَا مَا تُمَارِسُ مِنْ طُقُوسٍ وَتُبَاشِرُ مِنْ شَعَائِرَ، وَمَا تَصْطَنِعُ مِنْ عِبَادَاتٍ تَجِدُ فِيهَا عِبَادَةَ تَأَمُّلِهَا، وَمَا يُدْرِينَا، لَعَلَّهَا كَانَتْ تَجِدُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، تَجِدُ فِيهَا تَعْبِيرًا أَتَمَّ وَأَوْفَى.

هَذَا صَحِيحٌ، لَو كَانَتِ الرِّوَايَةُ المَذْكُورَةُ هِيَ كُلَّ مَا لَدَيْنَا مِنْ كُوَى وَنَوَافِذَ نُطِلُّ مِنْهَا، وَنَسْتَشِفُّ مِنْ خِلَالِهَا، وَلَكِنَّ الرِّوَايَاتِ ـ وَأَرَيْنَاكَ جَانِبًا مِنْهَا ـ كَثِيرَةٌ كَثْرَةً مُطْلَقَةً، وَهِيَ كَافَّتُهَا بِمَكَانِ ذَلِكَ الرَّيْبِ المُسْتَخَفِّ، وَالجُحُودِ المُتَنَكِّرِ.

عَلَى أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَإِنْ تَكُ مِثَالًا خَاصًّا، فَإِنَّنَا وَضَعْنَاهَا مَوْضِعَ البَيَانِ وَالشَّاهِدِ، لِأَمْرٍ بِعَيْنِهِ، لِتَجِيءَ مُوَضِّحَةً مَبْلَغَ الارْتِيَابِ وَحِدَّتَهُ وَشُبُوبَهُ.

وَهِيَ في هَذَا القَصْدِ وَافِيَةٌ أَكْبَرَ إِيفَاءٍ، وَمُعْلِنَةٌ أَبْلَغَ إِعْلَانٍ، بِأَنَّهُ كَانَ رَيْبًا حَادًّا، يَتَمَيَّزُ بِالعُنْفِ وَاللَّوْعَةِ، وَالتَّسَاؤُلِ المُنْطَوِي عَلَى مَرَارَةٍ.

وَلَيْسَ عَلَى فَجِيعَةِ هَذِهِ الوَثَنِيَّةِ في قُلُوبِ أَبْنَائِهَا المُتَحَرِّكَة فِيهِمْ بِظُفُرٍ وَنَابٍ، مِنْ شَخْصِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ، ذَلِكَ الرَّجُلِ المَأْسَاةِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى، ذَلِكَ الرَّجُلِ الذي كَانَ يَحْمِلُ المَأْسَاةَ في الضَّمِيرِ، يُرِيدُ لَو يَتَخَفَّفُ مِنْهَا عَلَى أَيِّ نَحْوٍ.

إِنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يَهْرُبَ وَلَكِنْ عَبَثًا يَسْعَى وَعَبَثًا يُحَاوِلُ، فَهَرَبُهُ مِنْهَا هَرَبٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ هَيِّنًا يَسِيرًا، وَمَا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَطَاعًا سَائِغًا، فَقَدْ يُوَسِّعُ الخُطْوَةَ هُنَا وَهُنَاكَ، ضَارِبًا بَيْنَ فِجَاجٍ وَسُهُولٍ، يَلْتَمِسُ يَقينَهُ الضَّائِعَ وَاطْمِئْنَانَهُ الشَّرُودَ.

إِنَّهُ لَيْسَ بِمُطِيقٍ أَنْ يَسْكُنَ إلى مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ حِينَ يَسْكُنُ إِلَيْهِ أَو حِينَ يُحَاوِلُ، فَإِنَّمَا يَجْمَعُ نَفْسَهُ إلى حَيْرَةٍ بَالِغَةِ الأَسَى، لَا تَفْتَأُ تَدُورُ عِنْدَهُ بِمِثْلِ مَسِّ الشَّوْكِ اللَّاهِبِ، وَتَتَوَهَّجُ في خَيَالِهِ كَأَطْرَافِ الرِّمَاحِ، عَلَى حَدِّ تَعْبِيرِ وَالِبَةَ بْنِ الحُبَابِ في القَدِيمِ.

وَأَيُّ طَعْمٍ هُوَ أَكْثَرُ مَرَارَةً وَأَنْفَذُ وَاخِزَةً مِنْ قَوْلِهِ:

أَرَبًّــا وَاحِـدًا أَمْ أَلْــفَ رَبٍّ    ***   أَدِيـنُ إِذَا تُـقُـسِّـمَتِ الأُمُورُ

وَمَنْ يَتَتَبَّعْ نَظْرَةَ هَذِهِ الفِئَةِ إلى مَا حَوْلَهَا مِنْ عِبَادَةٍ للأَوْثَانِ وَتَعَلُّقٍ بِهَا، يُحِسُّ بِأَنَّ تِلْكَ الطَّلِيعَةَ مِنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَمَنْ حَوْلَهُ وَالسَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا التي كَانَتْ تَتَرَدَّدُ عَلَيْهِ كَانُوا يُنْكِرُونَ هَذِهِ العِبَادَاتِ، وَلَا يَرْتَاحُونَ إِلَيْهَا عَلَى أَيَّةِ حَالٍ، وَيَنْتَقِدُونَهَا وَيَغْمِزُونَ وَيَلْمِزُونَ، وَيَسْتَغْرِبُونَ تَعَدُّدَ الأَرْبَابِ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَيُرَكِّزُونَ عَلَى حَيْرَتِهِمْ كَيْفَ يَصْنَعُ الإِنْسَانُ رَبًّا مِنْ تَمْرٍ ثُمَّ يَأْكُلُهُ، أَو يَغْضَبُ مِنْ رَبٍّ فَيُحَطِّمُهُ، أَو يَكْسَلُ عَنْ رَبٍّ فَيَهْجُرُهُ؟! فَكُلُّ تِلْكَ الأَرْبَابِ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ لَمْ تَكُنْ مُقْنِعَةً، بَلْ كَانَتْ مُقْلِقَةً.

هَكَذَا إِذًا كَانَ وَضْعُ هَذَا النَّفَرِ في خِضَمِّ الجَاهِلِيَّةِ الوَثَنِيَّةِ الطَّاغِيَةِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

وَهَكَذَا نُحِسُّ بِأَنَّ هَذِهِ السَّيِّدَةَ الجَلِيلَةَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَتْ عَلَى مَنْهَجِ هَذَا النَّفَرِ وَقَرِيبَةً مِنْهُ، وَكَانَتْ في شَكٍّ وَرَيْبٍ وَحَيْرَةٍ وَقَلَقٍ مِمَّا حَوْلَهَا وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ.

حَتَّى شَاءَ اللهُ تعالى أَنْ تَكُونَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِهَذَا اطْمَأَنَّتْ نَفْسُهَا، وَاسْتَقَرَّتْ وَهَدَاهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إلى صِرَاطِهِ المُسْتَقِيمِ.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 2/ ذو القعدة /1443هـ، الموافق: 2/ حزيران / 2022م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع أمهاتنا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن

12-01-2024 119 مشاهدة
37ـ الطاهرة سيدة الشعب

وَدَعُونَا الآنَ نَتَتَبَّعُ جَانِبًا مِنَ السِّيرَةِ العَطِرَةِ لِهَذِهِ السَّيِّدَةِ العَظِيمَةِ، وَصَبْرِهَا وَاحْتِسَابِهَا وَحُبِّهَا وَحَدْبِهَا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ في ... المزيد

 12-01-2024
 
 119
30-12-2023 138 مشاهدة
36ـ صلاتها مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

كَانَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَقْرَبَ مَا تَكُونُ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تُتَابِعُهُ، وَتَقْتَدِي بِهِ، وَتَسْمَعُ مِنْهُ وَتَحْفَظُ لَهُ، وَتَسْعَى ... المزيد

 30-12-2023
 
 138
24-11-2023 213 مشاهدة
35ـ البشرى

حُبِّبَ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الخَلْوَةُ، فَكَانَ يَذْهَبُ إلى غَارِ حِرَاءٍ يَتَعَبَّدُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، ثُمَّ يَعُودُ إلى خَدِيجَةَ لِيَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا. ... المزيد

 24-11-2023
 
 213
11-09-2023 295 مشاهدة
34ـ بدء الوحي

وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى مُشْرِقَةٌ مِنْ صُوَرِ حَيَاةِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ، فَمَا إِنْ حَدَّثَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَنُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ حَتَّى ... المزيد

 11-09-2023
 
 295
10-08-2023 238 مشاهدة
33ـ أيام حراء

مُنْذُ ضَمَّهَا البَيْتُ السَّعِيدُ قَامَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِوَاجِبِهَا كَامِلًا نَحْوَ زَوْجِهَا الحَبِيبِ، فَمَلَأَتْ أَيَّامَهُ سَعَادَةً وَهَنَاءً، تَتَحَسَّسُ مَرَاضِيَهُ فَتُسَارِعُ إِلَيْهَا، وَتَجْعَلُ نَفْسَهَا وَمَالَهَا ... المزيد

 10-08-2023
 
 238
09-03-2023 242 مشاهدة
32ـ حياة السيدة خديجة من الزواج إلى البعثة

السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا جُبِلَتْ عَلَى فِطْرَةٍ كَرِيمَةٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ عَالِيَةٍ وَحَنَانٍ فَيَّاضٍ، مَا إِنْ تَزَوَّجَتْ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ... المزيد

 09-03-2023
 
 242

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3153
المكتبة الصوتية 4762
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 411969644
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :