183ـ ولكن رحمة العامة

183ـ ولكن رحمة العامة

كلمة شهر جمادى الأولى 1443

183ـ ولكن رحمة العامة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: النَّاسُ اليَوْمَ بِحَاجَةٍ إلى كَنَفٍ رَحِيمٍ، وَرِعَايَةٍ حَانِيَةٍ، وَبَشَاشَةٍ سَمْحَةٍ، هُمْ بِحَاجَةٍ إلى وُدٍّ يَسَعُهُمْ، وَحِلْمٍ لَا يَضِيقُ بِجَهْلِهِمْ، وَلَا يَتَنَفَّرُ مِنْ ضَعْفِهِمْ، بِحَاجَةٍ إلى قَلْبٍ كَبِيرٍ يَمْنَحُهُمْ وَيُعْطِيهِمْ، وَلَا يَتَطَلَّعُ إلى مَا في أَيْدِيهِمْ، بِحَاجَةٍ إلى مَنْ يَحْمِلُ هُمُومَهُمْ، وَلَا يُثْقِلُهُمْ بِهُمُومِهِ.

الإِنْسَانُ لَا يَتَمَيَّزُ في إِنْسَانِيَّتِهِ إِلَّا بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ، لَا في أَكْوَامِ لَحْمِهِ وَعِظَامِهِ، بِالرُّوحِ وَالقَلْبِ يَعِيشُ وَيَشْعُرُ، وَيَنْفَعِلُ وَيَتَأَثَّرُ، وَيَرْحَمُ وَيَتَأَلَّمُ.

الرَّحْمَةُ صُورَةٌ مِنْ كَمَالِ الفِطْرَةِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الرَّحْمَةُ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ كَمَالِ الفِطْرَةِ، وَجَمَالِ الخُلُقِ، تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى البِرِّ، وَتَنْـشُرُ عَلَيْهِ في الأَزَمَاتِ نَسِيمًا عَلِيلًا تَتَرَطَّبُ مَعَهُ الحَيَاةُ، وَتَأْنَسُ لَهُ الأَفْئِدَةُ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ».

رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ رَحِيمٌ، وَرَحْمَتُهُ لَا تُشْبِهُ رَحْمَةَ المَخْلُوقِينَ، فَهُوَ تَبَارَكَ وتعالى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَخَيْرُ الرَّاحِمِينَ، وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَعَمَّ بِهَا كُلَّ حَيٍّ، وَمَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَهِيَ تَدْعُو للمُؤْمِنِينَ أَثْنَتْ عَلَى رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ، وَتَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ صِفَةِ الرَّحْمَةِ، فَقَالَتْ: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾.

رَحْمَةُ اللهِ تعالى رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ، روى الشيخان عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ»؟

قُلْنَا: لَا، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ.

فَقَالَ: «للهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا».

وَالإِنْسَانُ مَفْطُورٌ عَلَى خُلُقِ الرَّحْمَةِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ طَمَسَ هَذِهِ الرَّحْمَةَ، فَصَارَ أَقْسَى مِنَ الحَجَرِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى.

الإِسْلَامُ رِسَالَةُ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ للبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِسْلَامُ رِسَالَةُ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ للبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ، دَعَا إلى التَّرَاحُمِ، وَجَعَلَ الرَّحْمَةَ مِنْ دَلَائِلِ كَمَالِ الإِيمَانِ، فَالمُسْلِمُ يَلْقَى النَّاسَ وَفي قَلْبِهِ عَطْفٌ مَدْخُورٌ، وَبِرٌّ مَكْنُونٌ، روى الحاكم عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا تَحَابُّوا عَلَيْهِ؟».

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ تَحَابُّوا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كُلُّنَا رَحِيمٌ.

قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ، وَلَكِنْ رَحْمَةُ الْعَامَّةِ رَحْمَةُ الْعَامَّةِ».

لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كُلَّهُ رَحْمَةٌ، وَللنَّاسِ كُلِّهِمْ، روى الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ».

فَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ للعَالَمِينَ جَمِيعًا ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. لَقَدْ بَعَثَهُ اللهُ تعالى فَسَكَبَ في قَلْبِهِ مِنَ العِلْمِ وَالحِلْمِ، وَفي خُلُقِهِ مِنَ الإِينَاسِ وَالبِرِّ، وَفي طَبْعِهِ مِنَ السُّهُولَةِ وَالرِّفْقِ، وَفي يَدِهِ مِنَ السَّخَاوَةِ وَالنَّدَى، مِمَّا جَعَلَهُ أَزْكَى عِبَادِ الرَّحْمَنِ رَحْمَةً، وَأَوْسَعَهُمْ عَاطِفَةً، وَأَرْحَبَهُمْ صَدْرًا، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾. وَالقَائِلُ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَيْسَ المَطْلُوبُ قَصْرَ الرَّحْمَةِ عَلَى مَنْ نَعْرِفُ مِنْ قَرِيبٍ أَو صَدِيقٍ، وَلَكِنَّهَا رَحْمَةٌ عَامَّةٌ تَسَعُ العَامَّةَ كُلَّهُمْ؛ وَلَقَدْ حَثَّنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: «لَا يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ» رواه الإمام البخاري عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَالَ: «إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَمِنْ أَعْظَمِ مَا تُسْتَجْلَبُ بِهِ رَحْمَةُ اللهِ تعالى، الرَّحْمَةُ بِعِبَادِهِ، روى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِيَسْأَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ، هَلْ هُوَ رَحِيمٌ بِخَلْقِ اللهِ تعالى جَمِيعًا، وَخَاصَّةً بِالمُؤْمِنِينَ، وَبِأَبَوَيْهِ وَزَوْجِهِ وَأَوْلَادِهِ وَحَوَاشِيهِ؟

اللَّهُمَّ لَا تَنْزِعِ الرَّحْمَةَ مِنْ قُلُوبِنَا. آمين.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الأحد: 1/ جمادى الأولى /1443هـ، الموافق: 5/ كانون الأول/ 2021م

 2021-12-23
 369
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

25-07-2024 29 مشاهدة
215ـ السعيد له دستور

الرِّفْقُ وَاللِّينُ مَا وُجِدَا في شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا فُقِدَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، فَاللِّينُ في الكَلَامِ وَالْتِزَامُ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾. وَقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا ... المزيد

 25-07-2024
 
 29
05-06-2024 302 مشاهدة
214ـ أفضل الأشهر

هَذِهِ أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ قَدْ أَقْبَلَتْ، فَاسْمَعُوا إلى هَدْيِ حَبِيبِكُمُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى ... المزيد

 05-06-2024
 
 302
09-05-2024 377 مشاهدة
213ـ أقبلوا على الملك العليم العلام

إِنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ مَحْدُودَةُ الآجَالِ، وَأَيَّامَهُ وَلَيَالِيَهُ تَمْضِي سَرِيعَةً إلى الزَّوَالِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا ... المزيد

 09-05-2024
 
 377
09-04-2024 594 مشاهدة
212ـ كيف تستقبل العيد أنت؟

هَا هُوَ يَوْمُ العِيدِ قَدْ جَاءَ بَعْدَ طَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، بَعْدَ رُكْنٍ عَظِيمٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، كَيْفَ لَا يَأْتِي يَوْمُ عِيدٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ شَهْرٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَتِنَا؟ ... المزيد

 09-04-2024
 
 594
13-03-2024 465 مشاهدة
211ـ القرآن أنيسنا

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 13-03-2024
 
 465
09-02-2024 653 مشاهدة
210ـ انظر عملك في شهر شعبان

أَخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ ... المزيد

 09-02-2024
 
 653

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5619
المقالات 3174
المكتبة الصوتية 4811
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 416307702
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :