61ـ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾

61ـ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾

61ـ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ اللهُ تعالى في سُورَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾؟ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ فِيهَا مَغْمَزٌ للمُعَانِدِينَ وَللجَاحِدِينَ وَللمُصِرِّينَ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللهِ تعالى، وَعَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ تعالى لَهُمْ: أَمَا آنَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا، وَلِمَنْ وَرَاءَهُمْ ـ لِأَنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ ـ وَهُمْ يَقْطَعُونَ الأَرْضَ مِنْ شَمَالِهَا إلى جَنُوبِهَا، وَمِنْ شَرْقِهَا إلى غَرْبِهَا، وَيَمُرُّونَ عَلى دِيَارِ الظَّلَمَةِ الفَاسِقِينَ الذينَ عَاثُوا في الأَرْضِ فَسَادًا، كَدِيَارِ صَالِحٍ في بِلَادِ الشَّامِ، وَدِيَارِ ثَمُودَ في جَنُوبِ اليَمَنِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مُلُوكًا في الأَرْضِ، ثُمَّ صَارُوا مُشَرَّدِينَ بَائِسِينَ، كَانَتْ بُسُطُهُمْ مِنْ حَرِيرٍ، فَصَارَتْ مِنْ تُرَابٍ، وَصَارَتْ دِيَارُهُمْ أَثَرًا بَعْدَ عَيْنٍ ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾. أَمَا آنَ لِهَؤُلَاءِ وَلِأَمْثَالِهِمْ أَنْ يَتَّعِظُوا؟

فَالآيَةُ الكَرِيمَةُ فِيهَا تَوْبِيخٌ شَدِيدٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ المُعَانِدِينَ، وَلِأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِمْ، عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ بِسُوءِ مَصِيرِ مَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ في الشِّرْكِ وَالجُحُودِ.

أَعْظَمُ مَا يُلَيِّنُ القُلُوبَ القُرْآنُ الكَرِيمُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ أَعْظَمَ دَوَاءٍ لِقَسْوَةِ القَلْبِ، وَأَعْظَمَ مَا يُلَيِّنُ العَبْدُ بِهِ قَلْبَهُ القُرْآنُ العَظِيمُ، تِلَاوَةً وَسَمَاعًا وَتَدَبُّرًا، قَالَ تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟

لِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْنَا تِلَاوَةُ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَسَمَاعُ آيَاتِهِ، وَتَدَبُّرُ مَعَانِيهِ، وَالعَمَلُ بِأَحْكَامِهِ، وَالتَّحَلِّي بِأَخْلَاقِهِ، حَتَّى تَحْصُلَ لَنَا الهِدَايَةُ وَالمُتَابَعَةُ خَلْفَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَلِيقُ بِالأُمَّةِ التَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الكِتَابِ الذينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ فَأَعْرَضُوا عَنْهُمَا، فَكَانَ حَالُهُمْ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.

وَجَبَ عَلَى الأُمَّةِ أَنْ تَسْمَعَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.

وَاللهِ الذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، أَعْظَمُ مَا يُقَسِّي القَلْبَ هَجْرُ كِتَابِ اللهِ تعالى تِلَاوَةً وَفَهْمًا وَعَمَلًا، وَالغَفْلَةُ عَنِ المَوْتِ، وَالانْشِغَالُ بِالدُّنْيَا عَنِ الآخِرَةِ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الدُّنْيَا ظِلٌّ زَائِلٌ، وَعَرَضٌ حَائِلٌ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾؟

أَهْلُ الجُحُودِ وَالعِنَادِ خُرِّبَتْ دِيَارُهُمْ في الدُّنْيَا، وَآثَارُهُمْ بَاقِيَةٌ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾؟

لَقَدْ صَارَتْ دِيَارُ المُتَكَبِّرِينَ خَرَابًا، وَعَلَيْهِمْ تُصَبُّ اللَّعَنَاتُ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: السَّعِيدُ مَنِ اتَّعَظَ بِغَيْرِهِ، وَالأَحْمَقُ الذي لَا يَتَّعِظُ إِلَّا بِنَفْسِهِ، رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ القَائِلُ في سُورَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾؟ هُوَ القَائِلُ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾. وَهُوَ القَائِلُ: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.

لِنَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنَ الظُّلْمِ لِأَنْفُسِنَا، وَمِنَ الظُّلْمِ لِغَيْرِنَا، فَإِنَّ بَأْسَ اللهِ شَدِيدٌ، وَمُحَارَبَةَ اللهِ تعالى لَا يَقْوَى عَلَيْهَا العِبَادُ، وَلْنَسْتَشْعِرْ عَظَمَةَ اللهِ تعالى، فَهُوَ تَبَارَكَ وتعالى يُدَبِّرُ أَمْرَ المَمَالِكِ، وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَيَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَيُدَاوِلُ الأَيَّامَ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُقَلِّبُ الدُّوَلَ، فَيَذْهَبُ بِدَوْلَةٍ وَيَأْتِي بِأُخْرَى، وَأَمْرُهُ وَسُلْطَانُهُ نَافِذٌ في السَّمَاوَاتِ وَأَقْطَارِهَا، وَفي الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا وَمَا تَحْتَهَا، وَفي البِحَارِ وَالجَوِّ، فَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَمَّنَا رِضَاكَ وَالآخِرَةَ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 22/ جمادى الأولى /1443هـ، الموافق: 27/ كانون الأول / 2021م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

15-01-2024 910 مشاهدة
85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد

 15-01-2024
 
 910
31-07-2023 824 مشاهدة
84ـ عروة بن الزبير رضي الله عنه

مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد

 31-07-2023
 
 824
08-05-2023 1152 مشاهدة
83ـ شريح القاضي

ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد

 08-05-2023
 
 1152
19-04-2023 745 مشاهدة
82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد

 19-04-2023
 
 745
14-04-2023 599 مشاهدة
81ـ أتحلف من أجل درهمين

وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد

 14-04-2023
 
 599
11-04-2023 727 مشاهدة
80ـ حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته

يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد

 11-04-2023
 
 727

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5674
المقالات 3204
المكتبة الصوتية 4879
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 421928272
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :