23ـ لماذا السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها؟

23ـ لماذا السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها؟

23ـ لماذا السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها؟

سُؤَالٌ يَتَرَدَّدُ في الأَذْهَانِ عَبْرَ الزَّمَانِ، لِمَاذَا كَانَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا هِيَ الزَّوْجَةَ الأُولَى؟

وَالجَوَابُ في رَأْيِي هُوَ أَنَّ هَذِهِ سَيِّدَةٌ اخْتَارَهَا اللهُ تعالى لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مَرْحَلَةٍ دَقِيقَةٍ، اخْتَارَهَا اللهُ سُبْحَانَهُ وتعالى عَلَى عِلْمٍ وَهُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ، لِتَكُونَ بِجِوَارِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في مَرْحَلَةٍ مُهِمَّةٍ مِنْ حَيَاتِهِ، وَحَيَاةِ الرِّسَالَةِ، فَكَانَتِ الأَمِينَةَ، وَكَانَتِ الرَّزِينَةَ، وَكَانَتِ الصِّدِّيقَةَ وَالصَّدِيقَةَ وَالصَّادِقَةَ، إِنَّهَا سَيِّدَتُنَا خَدِيجَةُ الطَّاهِرَةُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ وَأَوَّلُ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، لَا تُفَارِقُهُ وَلَكِنَّهَا مِنْ حَوْلِهِ كَالهَالَةِ حِينَ تَرْنُو إلى البَدْرِ، إِنَّهَا أُولَى نِسَاءِ النَّبِيِّ اللَّوَاتِي مَنَحَهُنَّ الوَحْيُ وِسَامَ التَّمَيُّزِ وَالفَخَارِ: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾. وَسَجَّلَ الحَدِيثُ عَنِ المُصْطَفَى خِطَابَهُ لِأَكْثَرِهِنَّ عِنْدَهُ بَعْدَهَا قُرْبًا وَدَلَالًا، وَهِيَ أُمُّنَا السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَلَكِنَّهُ قَالَ عَنْ حَبِيبَتِهِ وَوَزِيرَتِهِ الأُولَى خَدِيجَةَ الكُبْرَى:

«مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِيَ إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ» رواه الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.

فَشَهِدَ لَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عَلَى نِسَائِهِ جَمِيعًا بِالخَيْرِيَّةِ المُطْلَقَةِ، وَأَكْمَلَ القُرْآنُ الكَرِيمُ هَذَا الفَضْلَ بِدَائِرَةِ الكَمَالِ، التي تَضُمُّ كُلَّ الآلِ، حَيْثُ يَقُولُ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾. وَكَيْفَ لَا يَثِبُ إلى الذِّهْنِ أَوَّلَ مَا يُتَأَمَّلُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ هَذَا البَيْتُ الكَرِيمُ؟ الذي عِمَادُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَحَرَمُهُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَسِرَاجُهُ الزَّهْرَاءُ البَتُولُ، سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالَمِينَ، بَضْعَةُ الرَّسُولِ، فلْذَةُ كَبِدِهِ، وَزَوْجُهَا أَبُو عِتْرَتِهِ، وَحَامِلُ لِوَائِهِ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَرَيْحَانَتَاهُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ، وَدُرَّتَاهُ عَقِيلَتَا بَيْتِ النُّبُوَّةِ، زَيْنَبُ الطَّاهِرَةُ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ الفَاخِرَةُ، وَصِنْوُهُمَا رُقَيَّةُ الصَّابِرَةُ المُهَاجِرَةُ، ذُرِّيَةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.

أَمَّا لِمَاذَا السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ؟ فَقَدْ كَشَفَتْ عَنْهُ في حَيَاتِهَا الأَقْدَارُ فِيمَا شَهِدَتْ بِهِ الأَحْدَاثُ، وَفَسَّرَتْهُ الإِرْهَاصَاتُ، وَنَطَقَ بِهِ الوَحْيُ عَلَى لِسَانِ الصَّادِقِ المَصْدُوقِ الذي لَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، فَهِيَ الصَّحَابِيَّةُ الأُولَى قَبْلَ كُلِّ الصَّحَابَةِ، وَالنَّبِيُّ الكَرِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ في شَأْنِ الصَّحَابَةِ: «إِنَّ اللهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي» وَهِيَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِدُونِ رَيْبٍ أَوَّلُ هَؤُلَاءِ اخْتِيَارًا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَوَّلُهُمْ إِيمَانًا، وَأَوَّلُهُمْ بَذْلًا، وَأَوَّلُهُمْ نَصْرًا، وَأَوَّلُهُمْ جِهَادًا، وَأَوَّلُهُمْ حُبًّا للهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّ أَيَّامِهَا، وَأَحْوَالِهَا، وَخَطَرَاتِهَا، وَسَعْيِهَا، مُنْذُ عُرِفَ في مَكَّةَ الصَّادِقُ الأَمِينُ قَبْلَ الرِّسَالَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَحَتَّى وَفَاتِهَا صَفَحَاتٌ مُشْرِقَةٌ، وَلِهَذَا كَانَتْ خَدِيجَةُ، وَكَانَتْ لَهَا كُلُّ تِلْكَ المَكَانَةِ بِاخْتِيَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِتَكُونَ بِجِوَارِ حَبِيبِهِ تَعْضُدُهُ وَتَقِفُ مَعَهُ.

نَحْنُ نُؤْمِنُ إِيمَانًا مُطْلَقًا لَا يَعْرِضُ لَهُ شَكٌّ، أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ في هَذَا الوُجُودِ إِنَّمَا يَجْرِي بِإِرَادَةِ اللهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَقَدْرِهِ، وَعَلَى مَقَادِيرَ مَعْلُومَةٍ قَبْلَ وُجُودِهِ، مُرَتَّبَةٍ قَبْلَ ظُهُورِهِ، مُحَدَّدَةِ المِقْدَارِ وَالخَصَائِصِ، وَالهَدَفِ وَالنَّتَائِجِ لِأَنَّهَا مِنْ تَقْدِيرِ العَزِيزِ العَلِيمِ.

نَعَمْ، لَيْسَ هُنَاكَ احْتِمَالٌ للمُصَادَفَةِ فِيمَا يَقَعُ، وَلَا للعَشْوَائِيَّةِ فِيمَا يَجْرِي.

فَإِذَا تَسَاءَلْنَا عَنْ ظُهُورِ السَّيِّدَةِ الجَلِيلَةِ في حَيَاةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَفي هَذَا الَظَّرْفِ المُحَدَّدِ مِنْ عُمُرِهَا، وَمَا مَرَّ بِهَا مِنْ شُؤُونٍ وَأَحْدَاثٍ، وَمَا عُرِفَ بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَطَلُّعِهِ إلى الحَقِيقَةِ، وَتَعَطُّشِهِ إلى الهُدَى، وَمَوْقِفِهِ مِنْ ثَوَابِتِ عَصْرِهِ، وَسُلُوكِيَّاتِ بِيئَتِهِ في جِدِّهَا وَهَزْلِهَا، وَعِلْمِهَا وَجَهْلِهَا، وَحَرْبِهَا وَسِلْمِهَا، لَو تَسَاءَلْنَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ تَارِيخًا مُدَوَّنًا، وَوَاقِعًا مُدْهِشًا، وَحَدِيثًا عَجَبًا، يَشْغَلُ النَّاسَ مُنْذُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، فَسَنَجِدُ اسْتِحَالَةً مُطْلَقَةً أَنْ يَحُلَّ مَحَلَّ هَذَيْنِ الإِنْسَانَيْنِ العَظِيمَيْنِ ـ سَيِّدِنَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الصَّادِقِ الأَمِينِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ الكَامِلَةِ المُطَهَّرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا ـ أَيُّ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِمَّنْ سَبَقَهُمَا في الوُجُودِ، أَو عَاصَرَهُمَا في الحَيَاةِ، أَو جَاءَتْ بِهِ القُرُونُ مِنْ بَعْدِهِمَا، وَهَذَا لَيْسَ قَوْلًا مُتَزَيِّدًا، وَلَا تَجَاوُزًا للحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ بِهِ الوَاقِعُ المَشْهُودُ، وَالنَّظَرُ الوَئِيدُ، وَهُوَ قَدَرُ اللهِ وَتَقْدِيرُهُ سُبْحَانَهُ.

وَسَيِّدَةُ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ نَشَأَتْ في بِيئَةِ مَكَّةَ الحَرَامِ، التي تَدُورُ مَعَانِي السِّيَادَةِ فِيهَا حَوْلَ قِيَمٍ تَكَادُ تَرْتَبِطُ كُلُّهَا بِمَعْنَى القَدَاسَةِ المَوْرُوثَةِ لِبَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَالبَلَدِ الحَرَامِ، وَالأَشْهُرِ الحُرُمِ، فَسِدَانَةُ البَيْتِ العَتِيقِ شَرَفٌ يَتَبَاهَى بِهِ القَائِمُونَ عَلَيْهِ، وَيَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، وَيُقَاتِلُ مِنْ أَجْلِهِ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ الجَدُّ الرَّابِعُ لِخَدِيجَةَ وَلِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ.

وَالرِّفَادَةُ وَالسِّقَايَةُ وَغَيْرُهُمَا تَقُومُ بِهَا بُيُوتٌ تَرَاهَا عِمَادَ مَجْدِهَا، وَآيَةَ شَرَفِهَا، وَرِعَايَةُ قَدَاسَةِ المَكَانِ وَالزَّمَانِ أَمْرٌ تَلْتَزِمُ بِهِ كُلُّ بُطُونِ مَكَّةَ، وَأَخْلَاقُ البَدَاوَةِ الفِطْرِيَّةِ مِنْ شَجَاعَةٍ وَكَرَمٍ، وَحِمَايَةِ الجَارِ، وَإِغَاثَةِ المُسْتَجِيرِ، وَإِبَاءِ الضَّيْمِ، لَمْ يُطْفِئْهَا اسْتِقْرَارُ المَدَنِيَّةِ، وَلَا تَرَفُ التَّحَضُّرِ.

وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: هَذِهِ أُمُورٌ يُشَارِكُ خَدِيجَةَ فِيهَا كَثِيرَاتٌ مِمَّنْ عَاصَرْنَهَا مِنْ نِسَاءِ مَكَّةَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّ الذِّرْوَةَ في كُلِّ شَيْءٍ لَا تُتَاحُ إِلَّا لِآحَادٍ، وَإِنَّ المَوَارِيثَ وَالاسْتِعْدَادَ الفِطْرِيَّ لَا يَتَسَاوَيَانِ أَبَدًا في سُكَّانِ البِيئَةِ الوَاحِدَةِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالسُّلُوكِ الفَرْدِيِّ وَالاخْتِيَارِ الشَّخْصِيِّ بَيْنَ المُتَاحَاتِ المُتَمَاثِلَةِ وَالمُتَبَايِنَةِ، فَيَتَمَيَّزُ بِهَذَا شَخْصٌ عَنْ آخَرَ.

وَالعَاقِلُ يَنْظُرُ بِعُمْقٍ في حَيَاةِ هَذِهِ السَّيِّدَةِ وَيُلَاحِظُ مَا أَكْرَمَهَا اللهُ بِهِ مِنْ نُورٍ وَبَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا أَحَاطَهَا بِهِ مِنْ رُؤًى، وَمَا أَلْهَمَهَا مِنْ تَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ، وَتَرَيُّثٍ حَمَاهَا مِنَ الانْدِفَاعِ في المُسْتَنْقَعَاتِ الوَثَنِيَّةِ وَعِبَادَةِ الأَصْنَامِ، فَتَأَفَّفَتْ وَتَرَفَّعَتْ وَنَفَرَتْ مِنْهَا.

وَعِنْدَمَا جَاءَتْهَا تِلْكَ الرُّؤْيَا العَظِيمَةُ وَأَحَسَّتْ بِذَلِكَ النُّورِ في هَذِهِ  الرُّؤْيَا يَهْبِطُ في دَارِهَا وَيَغْمُرُ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُبْهِرُ الأَبْصَارَ، هَبَّتْ خَدِيجَةُ مِنْ نَوْمِهَا وَهِيَ تَعِيشُ هَذَا الحُلُمَ، الذي مَلَأَ عَلَيْهَا حَيَاتَهَا، وَنَوَّرَ لَيْلَتَهَا، فَمَا إِنِ اسْتَيْقَظَتْ حَتَّى حَرَصَتْ عَلَى أَنْ تَسْتَعِيدَ تِلْكَ الرُّؤْيَا بَيْنَ رَهْبَةٍ وَأَمَلٍ، وَأَخَذَتْ تَتَسَاءَلُ عَنْ هَذِهِ الشَّمْسِ التي رَأَتْهَا تَهْبِطُ في دَارِهَا، وَتُضِيءُ لَهَا الدُّنْيَا حَتَّى أَصْبَحَ البَيْتُ كُلُّهُ نُورًا.

وَهَرَعَتْ إلى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ كَعَادَتِهَا دَائِمًا، وَرَآهَا مُتَلَهِّفَةً وَأَخَذَ يَسْأَلُهَا عَنْ سَبَبِ مَجِيئِهَا، فَرَوَتْ لَهُ تِلْكَ الرُّؤْيَا تَمَامًا كَمَا شَاهَدَتْهَا، وَإِذَا بِوَجْهِهِ يَتَهَلَّلُ وَتَبْدُو السَّعَادَةُ عَلَى مَلَامِحِهِ، وَيُبَشِّرُهَا كَعَادَتِهِ: البُشْرَى البُشْرَى يَا بْنَةَ العَمِّ، فَإِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا إِنَّمَا تَعْنِي أَنَّ اللهَ سَيُكْرِمُكِ بِنُورٍ يَدْخُلُ إلى مَنْزِلِكِ، وَأَحْسَبُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ نُورُ النُّبُوَّةِ.

اللهُ أَكْبَرُ يَا خَدِيجَةُ، هَذِهِ بُشْرَى عَظِيمَةٌ.

وَخَرَجَتْ شَارِدَةً بِذِهْنِهَا بَعِيدًا بَعِيدًا، تَتَخَيَّلُ هَذَا النُّورَ وَتَسْتَرْجِعُ كُلَّ مَا كَانَتْ تُفَكِّرُ فِيهِ، وَتُحِسُّ بِهِ في نَفْسِهَا وَوُجْدَانِهَا، وَأَخَذَتْ تَسْأَلُ وَرَقَةَ، مَاذَا تَعْنِي بِنُورِ النُّبُوَّةِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّهُ نُورٌ مِنْ نُورِ اللهِ، وَرِسَالَتِهِ إلى الأَرْضِ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ نُورُ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ يَا خَدِيجَةُ.

وَهَكَذَا عَاشَتْ خَدِيجَةُ عَلَى هَذَا الأَمَلِ، تَسْتَرْجِعُ هَذَا الحُلُمَ العَذْبَ، وَتَتَمَنَّى أَنْ تَتَحَقَّقَ الرُّؤْيَا، وَلِهَذَا فَقَدْ رَاحَتْ تَتَفرَّسُ وَتُدَقِّقُ في كُلِّ مَنْ يَتَقَدَّمُ لَهَا، وَتَقيسُهُ بِمِقْيَاسِ ذَلِكَ الحُلُمِ وَذَلِكَ النُّورِ الذي هَبَطَ في بَيْتِهَا، فَرَدَّتِ الكَثِيرَ مِمَّنْ تَقَدَّمُوا لِخِطْبَتِهَا، وَظَلَّتْ تَنْتَظِرُ أَمْرَ اللهِ، وَفَتْحَ اللهِ، وَكَرَمَ اللهِ، لِيُحَقِّقَ لَهَا ذَلِكَ الحُلُمَ.

وَجَلَسَتْ في يَوْمٍ مَعَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ عِنْدَ الحَرَمِ، وَطَافَتْ بِالبَيْتِ العَتِيقِ، وَرَاحَتْ تَدْعُو اللهَ أَنْ يُحَقِّقَ حُلُمَهَا، وَعَادَتْ إلى النِّسَاءِ تَجْلِسُ مَعَهُنَّ يَتَجَاذَبْنَ أَطْرَافَ الحَدِيثِ.

وَهُنَا جَاءَ صَوْتٌ يُجَلْجِلُ بِجِوَارِهِنَّ مِنْ حَبْرٍ مِنْ أَحْبَارِ اليَهُودِ وَقَفَ بِجَوَارِ النِّسْوَةِ وَأَخَذَ يُنَادِي: يَا مَعْشَرَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، يَا مَعْشَرَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ.

فَالْتَفَتَتِ النِّسْوَةُ، وَأَخَذْنَ يُصْغِينَ السَّمْعَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَظْهَرَ نَبِيٌّ، فَأَيَّتُكُنَّ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تَكُونَ لَهُ فِرَاشًا لَهُ فَلْتَفْعَلْ.

فَضَحِكَتِ النِّسْوَةُ وَحَسِبْنَ اليَهُودِيَّ يَهْرِفُ بِمَا لَا يَعْرِفُ، وَرَمَيْنَهُ بِالحَصْبَاءِ، وَاسْتَهْزَأَ بِهِ جَمْعٌ آخَرُ مِنْهُنَّ، وَقَبَّحَهُ بَعْضُهُنَّ وَأَغْلَظْنَ لَهُ القَوْلَ.

كُلُّ هَذَا وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خَوَيْلِدٍ صَامِتَةٌ تَنْظُرُ بِعُمْقٍ، وَتُفَكِّرُ في مَقُولَةِ اليَهُودِيِّ الذي هَيَّجَ مَا بِنَفْسِهَا مِنْ مَشَاعِرَ، وَأَعَادَ إِلَيْهَا ذِكْرَيَاتِهَا وَتَذَكَّرَتِ الحُلُمَ، وَتَذَكَّرَتِ الحَدِيثَ مَعَ ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ حَوْلَ النَّبِيِّ القَادِمِ، وَحَوْلَ خَاتَمِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَسَّتْ أَنَّ هَذَا اليَهُودِيَّ لَا يَهْرِفُ بِمَا لَا يَعْرِفُ، وَلَيْسَ بِرَجُلٍ مَجْنُونٍ، بَلْ إِنَّهُ يَعِي مَا يَقُولُ.

لَقَدْ تَذَكَّرَتْ حُلُمَهَا يَوْمَ أَنْ رَأَتِ الشَّمْسَ تَهْبِطُ في سَمَاءِ مَكَّةَ لِتَسْتَقِرَّ في مَنْزِلِهَا، وَأَدْرَكَتْ أَهَمِّيَّةَ هَذِهِ الرُّؤْيَا، وَأَنَّهَا رُؤْيَا صَادِقَةٌ وَأَنَّهَا رَمْزٌ لِأَحْدَاثٍ قَادِمَةٍ، فَتَذَكَّرَتْ بِشَارَاتِ ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَمَا ذَكَرَ لَهَا مِمَّا جَاءَ في التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ، وَأَحَسَّتْ أَنَّ هُنَاكَ أَمْرًا يَعْلَمُهُ اللهُ قَادِمٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّ لَهَا نَصِيبًا في هَذَا النُّورِ القَادِمِ، وَتَذَكَّرَتْ تَرَدُّدَهَا عَلَى ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ تَأْخُذُ عَنْهُ عِلْمَهُ، وَتَسْأَلُهُ عَنْ خَوَاطِرِهَا وَرُؤَاهَا، وَهُوَ الهَاجِرُ للأَوْثَانِ، البَاحِثُ في الأَدْيَانِ مَعَ رِفْقَةٍ لَهُ، يَسْعَوْنَ في ذَلِكَ سَعْيَهُمْ، وَيَرْتَحِلُونَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلى مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، يَطْلُبُونَ الدِّينَ، وَيَبْحَثُونَ عَنْ سِمَاتِ النَّبِيِّ المُنْتَظَرِ، وَزَمَانِهِ، وَمَكَانِ خُرُوجِهِ، وَتَرْتَحِلُ مَعَهُمْ خَدِيجَةُ بِرُوحِهَا وَوَعْيِهَا وَتَطَلُّعِهَا وَتَسَاؤُلِهَا، وَجَمْعِهَا لِحَصَادٍ بَلَغُوهُ مِنْ سِمَاتٍ وَأَخْبَارٍ.

تَفْعَلُ هَذَا وَلَا حَاجَةَ لِمَثِيلَاتِهَا إِلَيْهِ، وَهِيَ الشَّرِيفَةُ فَلَا تَسْعَى بِهَذَا إلى شَرَفٍ، وَهِيَ الثَّرِيَّةُ فَلَا تَطْلُبُ بِهَذَا مَالًا وَلَا ثَرَاءً، وَهِيَ المَرْغُوبَةُ المَطْلُوبَةُ، فَلَا تَرْجُو بِهَذَا التَّعَرُّضَ للأَنْظَارِ، وَلَا اسْتِرْعَاءَ الانْتِبَاهِ.

وَإِذًا هِيَ سَيِّدَةٌ أَكْرَمَهَا اللهُ تعالى، وَكَرَّمَهَا، وَاخْتَارَهَا لِتَكُونَ بِجِوَارِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في تِلْكَ المَرْحَلَةِ الحَاسِمَةِ مِنْ حَيَاتِهِ، إِنَّهَا اخْتِيَارُ اللهِ، هُوَ أَدَّبَهَا، وَفَضَّلَهَا، وَأَكْرَمَهَا بِهذَا الفَضْلِ، فَكَانَتْ زَوْجَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَأُمَّ المُؤْمِنِينَ، وَأٌمَّ الذُّرِّيَّةِ الطَّاهِرِينَ.

وَأَوَّلَ مَنْ وَقَفَ مَعَهُ، وَأَوَّلَ مَنْ صَدَّقَهُ، وَأَوَّلَ مَنْ تَزَوَّجَهُ، وَأَوَّلَ مَنْ شَهِدَ لَهُ، وَلِهَذَا كَانَتْ خَدِيجَةُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ غَيْرُهَا.

**      **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 17/ جمادى الآخرة /1443هـ، الموافق: 20/ كانون الثاني / 2022م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع أمهاتنا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن

12-01-2024 149 مشاهدة
37ـ الطاهرة سيدة الشعب

وَدَعُونَا الآنَ نَتَتَبَّعُ جَانِبًا مِنَ السِّيرَةِ العَطِرَةِ لِهَذِهِ السَّيِّدَةِ العَظِيمَةِ، وَصَبْرِهَا وَاحْتِسَابِهَا وَحُبِّهَا وَحَدْبِهَا عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ في ... المزيد

 12-01-2024
 
 149
30-12-2023 168 مشاهدة
36ـ صلاتها مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

كَانَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَقْرَبَ مَا تَكُونُ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ تُتَابِعُهُ، وَتَقْتَدِي بِهِ، وَتَسْمَعُ مِنْهُ وَتَحْفَظُ لَهُ، وَتَسْعَى ... المزيد

 30-12-2023
 
 168
24-11-2023 241 مشاهدة
35ـ البشرى

حُبِّبَ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الخَلْوَةُ، فَكَانَ يَذْهَبُ إلى غَارِ حِرَاءٍ يَتَعَبَّدُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، ثُمَّ يَعُودُ إلى خَدِيجَةَ لِيَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا. ... المزيد

 24-11-2023
 
 241
11-09-2023 351 مشاهدة
34ـ بدء الوحي

وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى مُشْرِقَةٌ مِنْ صُوَرِ حَيَاةِ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ، فَمَا إِنْ حَدَّثَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَنُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِ حَتَّى ... المزيد

 11-09-2023
 
 351
10-08-2023 250 مشاهدة
33ـ أيام حراء

مُنْذُ ضَمَّهَا البَيْتُ السَّعِيدُ قَامَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِوَاجِبِهَا كَامِلًا نَحْوَ زَوْجِهَا الحَبِيبِ، فَمَلَأَتْ أَيَّامَهُ سَعَادَةً وَهَنَاءً، تَتَحَسَّسُ مَرَاضِيَهُ فَتُسَارِعُ إِلَيْهَا، وَتَجْعَلُ نَفْسَهَا وَمَالَهَا ... المزيد

 10-08-2023
 
 250
09-03-2023 252 مشاهدة
32ـ حياة السيدة خديجة من الزواج إلى البعثة

السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا جُبِلَتْ عَلَى فِطْرَةٍ كَرِيمَةٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ عَالِيَةٍ وَحَنَانٍ فَيَّاضٍ، مَا إِنْ تَزَوَّجَتْ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ... المزيد

 09-03-2023
 
 252

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413248707
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :