854ـ خطبة الجمعة: الزلزال مصيبة معنوية

854ـ خطبة الجمعة: الزلزال مصيبة معنوية

854ـ خطبة الجمعة: الزلزال مصيبة معنوية

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾.

هَذِهِ السُّورَةُ الجَلِيلَةُ العَظِيمَةُ تُبَيِّنُ بَيَانًا قَاطِعًا، أَنَّ الأَرْضَ في حَرَكَاتِهَا وَزِلْزَالِهَا وَاهْتِزَازِهَا، إِنَّمَا هِيَ تَحْتَ أَمْرِ اللهِ تعالى وَوَحْيِهِ، وَهَذَا يُجَسِّدُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾.

مُصِيبَةُ الزِّلْزَالِ مَعْنَوِيَّةٌ أَكْثَرُ مِنْ كَوْنِهَا مَادِّيَّةً:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ زَلْزَلَ اللهُ تعالى الأَرْضَ لَحَظَاتٍ، فَأَذَاقَ النَّاسَ مُصِيبَةً مَعْنَوِيَّةً أَدْهَى وَأَعْظَمَ مِنْ مُصِيبَتِهَا المَادِّيَّةِ العَظِيمَةِ، أَذَاقَ اللهُ تعالى العِبَادَ جَمِيعًا ـ بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ ـ مِنَ الخَوْفِ وَالهَلَعِ وَاليَأْسِ وَالقُنُوطِ، فَاسْتَوْلَى كُلُّ ذَلِكَ عَلَى النُّفُوسِ، حَتَّى سُلِبَتْ الرَّاحَةُ مِنَ الجَمِيعِ لَيْلًا، وَعَمَّ القَلَقُ وَالاضْطِرَابُ، فَخَرَجَ النَّاسُ مِنْ بُيُوتِهِمْ تَارِكِينَ خَلْفَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، رَاجِينَ النَّجَاةَ بِأَرْوَاحِهِمْ، وَأَظْهَرُوا الفَقْرَ أَمَامَ اللهِ تعالى.

أَيْنَ الجَبَابِرَةُ؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟ أَيْنَ مَنْ يَقُولُ: أَنَا؟ الكُلُّ في خَوْفٍ وَقَلَقٍ وَاضْطِرَابٍ، وَالكُلُّ أَخَذَ يَتَشَهَّدُ وَيَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ السَّلَامَةَ وَالحِفْظَ وَاللُّطْفَ.

لَقَدْ عَرَفَ الجَمِيعُ حَجْمَهُمْ، وَعَرَفَ الجَمِيعُ عَظَمَةَ اللهِ تعالى، وَعَرَفَ الجَمِيعُ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، شَمَلَتِ الجَمِيعَ بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ، في جَوْفِ اللَّيْلِ، مَعَ شِدَّةِ البَرْدِ، مُصِيبَةٌ أَصَابَتِ القُلُوبَ وَالأَرْوَاحَ، وَامْتَلَأَتْ بُيُوتُ اللهِ تعالى في صَلَاةِ الفَجْرِ، وَالكُلُّ يَتَطَلَّعُ أَيْنَ الصَّالِحُونَ؟ أَيْنَ الأَتْقِيَاءُ؟ أَيْنَ مَنْ يَدْعُو اللهَ تعالى بِأَنْ يَرْفَعَ هَذَا البَلَاءَ.

الزِّلْزَالُ اسْتَهْدَفَ أَهْلَ الإِيمَانِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا الزِّلْزَالُ اسْتَهْدَفَ أَهْلَ الإِيمَانِ دُونَ أَهْلِ الكُفْرِ، في الشَّتَاءِ القَارِسِ، وَفي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَفي شِدَّةِ البَرْدِ، لِأَنَّهُ ـ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ، وَلَا يَعْلَمُ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ ـ صَارَتْ أَفْعَالُ بَعْضِ أَهْلِ الإِيمَانِ عَيْنَ أَفْعَالِ الكَافِرِينَ، انْتَشَرَ الرِّبَا، وَانْتَشَرَتِ الفَاحِشَةُ، وَكَثُرَ سُفُورُ النِّسَاءِ وَتَبَرُّجُهُنَّ، وَانْتَشَرَ عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَانْتَشَرَ أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، عَنْ طَرِيقِ النَّهْبِ وَالسَّلْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ، وَالغَدْرِ وَالخِيَانَةِ، وَانْتَشَرَتِ الأَفْلَامُ الإِبَاحِيَّةُ، وَاتَّسَعَتْ دَائِرَةُ الاتِّصَالَاتِ وَالعَلَاقَاتِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ، وَاسْتَخَفَّ بَعْضُ النَّاسِ بِالصَّلَوَاتِ، وَصَارَ الإِفْطَارُ في شَهْرِ رَمَضَانَ جِهَارًا نَهَارًا، وَانْتَشَرَ الظُّلْمُ بِجَمِيعِ صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ.

جَاءَ الزِّلْزَالُ لِإِيقَاظِ النَّاسِ مِنْ غَفْلَتِهِمْ، وَلِرَدِّهِمْ إلى اللهِ تعالى بِالاخْتِيَارِ، وَلَو شَاءَ رَبُّنَا أَنْ يَقْهَرَ الجَمِيعَ بِإِنْزَالِ آيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ تَظَلُّ أَعْنَاقُ الجَمِيعِ خَاضِعَةً لَهَا لَفَعَلَ، قَالَ تعالى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَد أَرَادَ اللهُ تعالى بِنَا خَيْرًا، فَأَيْقَظَنَا في السَّحَرِ رَغْمَ أُنُوفِ الجَمِيعِ، لَعَلَّنَا نَصْطَلِحُ مَعَ اللهِ تعالى، إِذَا كَانَ هَذَا الخَوْفُ وَقَعَ بِزَلْزَلَةٍ يَسِيرَةٍ لِلَحَظَاتٍ، فَكَيْفَ إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَنُسِفَتِ الجِبَالُ نَسْفًا، وَتَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ، وَقَامَ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ.

يَا عِبَادَ اللهِ: رَحِمَ اللهُ عَبْدًا عَرَفَ حَدَّهُ فَوَقَفَ عِنْدَهُ، نَحْنُ كُلُّنَا عَبِيدٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾.

فَهَلْ مِنْ عَوْدَةٍ إلى اللهِ تعالى؟ هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ صَادِقَةٍ إلى اللهِ تعالى؟

وَأَخِيرًا أَقُولُ: يَا عِبَادَ اللهِ، احْذَرُوا الحَلِيمَ إِذَا غَضِبَ، مَنْ لَهُ القُدْرَةُ عَلَى أَنْ يُبَارِزَ اللهَ تعالى؟ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ.

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 19/ رجب /1444هـ، الموافق: 10/ شباط / 2023م

 2023-02-10
 2424
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

19-04-2024 182 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 182
12-04-2024 856 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 856
09-04-2024 602 مشاهدة
908ـ خطبة عيد الفطر 1445 هـ:هنيئا لك يوم الجائزة إن كنت من المقبولين

هَا نَحْنُ في عِيدِ الفَطْرِ الذي جَاءَنَا بَعْدَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ القُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ وَالقُرْآنِ، لَقَدْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ مُذَكِّرًا لَنَا بِالنِّعْمَةِ العُظْمَى التي أَنْقَذَتِ البَشَرِيَّةَ مِنَ الضَّلَالِ ... المزيد

 09-04-2024
 
 602
04-04-2024 708 مشاهدة
907ـ خطبة الجمعة: شمروا عن ساعد الجد

هَا هُوَ الضَّيْفُ الكَرِيمُ يُلَوِّحُ بِالرَّحِيلِ، تَمْضِي أَيَّامُهُ مُسْرِعَةً كَأَنَّهَا حُلُمٌ جَمِيلٌ، مَا أَحْلَى أَيَّامَكَ يَا أَيُّهَا الضَّيْفُ الكَرِيمُ، وَمَا أَمْتَعَ صِيَامَكَ، لَقَدْ ذُقْنَا فِيكَ لَذَّةَ الإِيمَانِ، وَحَلَاوَةَ ... المزيد

 04-04-2024
 
 708
28-03-2024 619 مشاهدة
906ـ خطبة الجمعة: القرآن خير دستور

شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ هُوَ شَهْرُ القُرْآنِ، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ هُوَ وَاللهِ بِمَثَابَةِ الرُّوحِ للجَسَدِ، وَالنُّورِ للهِدَايَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ القُرْآنَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَهُوَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ. وَإِنَّهُ لَمِنَ ... المزيد

 28-03-2024
 
 619
21-03-2024 1098 مشاهدة
905ـ خطبة الجمعة: التقوى ميدان التفاضل بين العباد

لَقَدْ فَرَضَ اللهُ تعالى عَلَيْنَا صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى نَصِلَ إلى مَقَامِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى هِيَ الْتِزَامُ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، هِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، التَّقْوَى ... المزيد

 21-03-2024
 
 1098

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3160
المكتبة الصوتية 4796
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413540987
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :