16ـ آداب الصائم: الأدب الأول: (عند رؤية هلال رمضان: بعض الأحكام الشرعية المتعلقة برؤية الهلال)

16ـ آداب الصائم: الأدب الأول: (عند رؤية هلال رمضان: بعض الأحكام الشرعية المتعلقة برؤية الهلال)

 

خلاصة الدرس الماضي:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد عرفنا في الدرس الماضي بأن من رأى الهلال عليه أن يدعو بهذا الدعاء: (اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأمْنِ وَالإيمانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإسْلاَمِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، هِلالُ رُشْدٍ وخَيْرٍ) رواه الترمذي. ووقفنا مع كلمات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسأله تعالى أن يجعلها حجة لنا لا علينا.

بعض الأحكام المتعلقة برؤية الهلال:

وها نحن اليوم نقف مع بعض الأحكام الشرعية المتوقِّفة على رؤية الهلال، يقول الله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}.

أولاً: شهود الشهر يكون ليلاً أم نهاراً:

الجواب: شهود الشهر يكون ليلاً لا نهاراً، لذلك تبدأ العبادة في شهر رمضان منذ الليلة الأولى، فأول عبادة تؤديها في شهر رمضان هي الصلاة، وآخر عبادة تؤديها فيه هي الصيام، ولذلك ترى المسلمين إذا شاهدوا هلال شهر رمضان ليلاً قاموا إلى صلاة التراويح، فكانت هذه العبادة هي أول عبادة في شهر رمضان، وكأنها شكر لله عز وجل على هذه النعمة العظمى نعمة الصوم التي كتبها الله عز وجل على الخلق جميعاً، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}. فهذه الأمة ليست بدعاً في الصوم، بل كُتب على سائر الأمم، وإن اختلفت الكيفية.

فأول عبادة فيه الصلاة لأنا شهدنا الشهر ليلاً، وصدق الله القائل: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. فالعبد المَهديُّ عندما يشهد الشهر يكبِّر لله عز وجل ويخرُّ ساجداً لله تعالى بأن هداه لهذا الصيام ووفقه لأدائه، لأنه العبادة الوحيدة التي تكون خالصة لوجهه الكريم ولا رياء فيها.

والليل لا يكون فيه الصوم، وإذا ما شهدنا هلال شوال انتهى شهر رمضان، وبه تنتهي صلاة التراويح، فبُدِئ شهر رمضان بالصلاة وخُتم بالصيام، ومن كانت بدايته صلة مع الله تعالى ـ لأن الصلاة صلة مع الله ـ ونهايته صياماً عما حرم الله، كان جديراً لأن ينال الشرف العظيم الذي قال عنه مولانا عز وجل في الحديث القدسي: (إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي). اللهمَّ وفِّقنا لصيامه حقَّ الصيام وقيامه حق القيام، وتفضَّلْ علينا بهذا الأجر العظيم الذي وعدته عبادك المتقين.

ثانياً قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}:

شهود الشهر يكون برؤية الهلال، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلالَ، وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) رواه البخاري. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاثِينَ) رواه البخاري. ولقوله صلى الله عليه وسلم: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمْ الشَّهْرُ فَعُدُّوا ثَلاثِينَ) رواه مسلم.

سؤال: يقول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. فإذا لم يشهد المسلم الشهر بحيث لم ير الهلال هل يجب عليه أن يصوم أم لا؟

الجواب: قطعاً يجب الصوم على الأمة كلِّها إذا ثبت رؤية الهلال عن طريق جمع غفير، أو عن طريق شاهدين عدلين، ولا يشترط أن يراه كلُّ مكلف.

وهذا إذا دلَّ على شيء فإنما يدل على أن الأمة الإسلامية أمة واحدة، وأنها كرجل واحد، كما جاء في الحديث: (الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ) رواه مسلم. إذا رأى بعضها كأنها رأت كلها، لأن الأمة الإسلامية تربَّت على صدق القول والعمل والفعل، فكلُّ فرد من أفرادها يجب أن يكون صادقاً، فإذا أخبر الصادق ألزم الأمة كلها، ومن هنا قال جمهور الفقهاء: إذا رؤي هلال رمضان في الغرب وجب الصوم على أهل الشرق. وصدق الله القائل: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.

سؤال آخر: كيف يصوم من يسكن بلداً قريباً من القطب الشمالي أو الجنوبي حيث يستمر نهارها إلى ستة أشهر ويستمر ليلها إلى ستة أشهر؟ فهؤلاء لا يشهدون الهلال خلال هذه الفترة.

الجواب: هؤلاء يجب عليهم في الصلاة أن يقدِّروا أوقات الصلاة تقديراً ويحددوا وقتها، معتمدين في ذلك على أقرب البلاد إليهم، وكذلك بالنسبة لشهر رمضان، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حدَّث أصحابه عن المسيح الدجال، فقيل له يا رسول الله: (مَا لُبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي هُوَ كَسَنَةٍ أَيَكْفِينَا فِيهِ صَلاةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؟ قَالَ: لا اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ) رواه أحمد.

لذلك هؤلاء يجب عليهم أن يحددوا أوقات صلاتهم معتمدين على أقرب البلاد إليهم يتمايز فيها الليل والنهار، وكذلك يجب عليهم صيام شهر رمضان بحيث يحددوا بدء شهر رمضان ونهايته وبدء الإمساك والإفطار في كل يوم منه ببدء الشهر ونهايته، وبطلوع فجر كل يوم وغروب شمسه في أقرب البلاد إليهم يتميز فيها الليل من النهار. هذا، والله تعالى أعلم.

سؤال ثالث: ماذا يفعل من رأى هلال رمضان أو هلال شوال لوحده، ولم يأخذ الحاكم بقوله: هل يجب عليه الصوم إذا رأى هلال رمضان؟ وهل يجوز له الفطر إذا رأى هلال شوال؟

الجواب: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية إلى أن من رأى هلال رمضان وحده ورُدَّت شهادته لزمه الصوم وجوباً، وكذلك هو القول المشهور عند الحنابلة، لأنه تيقَّن أنه رمضان فلزمه صومه، فإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة، لأنه بردِّ شهادته صار مكذَّباً شرعاً، ولأن ما رآه يحتمل أن يكون خيالاً أو قطعة سحاب لا هلالاً.

أما إذا رآى هلال شوال وحده ورُدَّت شهادته، فعند جمهور الفقهاء كذلك لا يفطر ويجب عليه أن يصوم، خوف الاتهام في دينه وسدّاً للذريعة.

فإذا أفطر سراً فليس عليه شيء فيما بينه وبين الله عز وجل، ولكن إن عثر عليه الحاكم أنه مفطر فمن حقه أن يعزِّره ويعاقبه على فطره ولا كفارة عليه ولا قضاء. هذا، والله تعالى أعلم.

سؤال رابع: هل يجب الصوم على كل من رأى هلال رمضان؟

الجواب: لا يجب الصوم على كل من رأى هلال رمضان، بل يجب على من تحققت فيه الشروط التالية:

أولاً: الصحة والسلامة من المرض، وذلك لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. فالمريض الذي يخاف زيادة مرضه بالصوم أو إبطاء البرء له أن يفطر، وخاصة إذا أخبره طبيب مسلم ثقة عدل بأن الصوم يضرُّه أو يؤخِّر شفاءه.

ويلحق به في حق الفطر المرأةُ الحامل، والمرضع، والهَرِم، والإرهاق من الجوع والعطش، والكره على الفطر. وكل واحد له شروط ذكرها الفقهاء.

ثانياً: الإقامة للآية الكريمة السابقة، أما المسافر فله أن يفطر ولكن بشروط:

1ـ أن يكون السفر طويلاً يزيد عن /81/كم.

2ـ عدم الإقامة خلال مدة سفره.

3ـ أن لا يكون سفره في معصية لله عز وجل عند جمهور الفقهاء خلافاً للحنفية.

4ـ أن يكون سفره قبل الفجر، أما إذا سافر بعد الفجر فيجب عليه أن ينوي الصيام ويشرع به، فإذا تعب وأجهد في السفر أفطر.

ثالثاً: خلو المرأة عن الحيض والنفاس.

فمن شهد الشهر وكان سليماً معافى، مقيماً، وكانت المرأة كذلك وهي خالية عن الحيض والنفاس وجب عليها الصوم.

فهذه بعض الأحكام المتعلقة بهلال رمضان، أهلَّه الله علينا بالخير واليمن والبركة، ونسال الله أن يوفِّقنا لصيامه حق الصيام وقيامه حق القيام، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام وعلى المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

**     **     **

 

 2009-08-23
 2204
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  دروس رمضانية

14-03-2024 356 مشاهدة
1-مواساة لأصحاب الأعذار في رمضان

يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد

 14-03-2024
 
 356
26-05-2022 710 مشاهدة
28ـ غزوة بدر وحسرة المشركين

فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد

 26-05-2022
 
 710
26-05-2022 533 مشاهدة
27ـ غزوة بدر درس عملي لكل ظالم ومظلوم

غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد

 26-05-2022
 
 533
29-04-2022 399 مشاهدة
26ـ غزوة بدر وتواضع القائد

مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 399
29-04-2022 841 مشاهدة
25ـ هنيئًا لكم أيها الصائمون القائمون

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد

 29-04-2022
 
 841
29-04-2022 965 مشاهدة
24ـ أقوام عاشوا عيش السعداء

الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد

 29-04-2022
 
 965

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414615823
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :