الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد حبيب رب العالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
نتابع موضوعنا في هذا اللقاء حول بناء أسرة مسلمة: الغرب حريص كل الحرص على تمزيق كيان الأسرة المسلمة، ومن جملة سعيه في تمزيق الأسرة المسلمة أنه يحرض الشباب على العزوف عن الزواج، ويحرض المجتمع بطريق آخر أن كل واحد عليه أن يبني مستقبله بنفسه. الغرب إذا انطلق من هذا المنطلق فلا غرابة في ذلك، لأنه ما عنده مبادئ، وما عنده منطلقات صحيحة يسير عليها، لأن تشريع الغرب وضعي من وضع البشر، وتشريع البشر ناقص على الإطلاق.
الإسلام حريص على طهارة المجتمع من أدران الرذيلة، وعلى طهارة الأنساب، وعلى التكاثر من جنس الإنسان، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} ويأتي الرجل ليقول: أنا لا أريد الزواج، والله يقول: {وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء} فليكن لك الاقتران مع الزوجة بطريق مشروع لبقاء النوع الإنساني، هذا النوع المكرم الذي قال فيه مولانا جل في علاه: {ولقد كرمنا بني آدم}، كن حريصاً على تكثير هذا النوع الذي قال فيه مولانا: {إني جاعل في الأرض خليفة}.
أما الغرب فعلى النقيض من ذلك تماماً، ليس حريصاً على طهارة الأنساب، ولا على طهارة المجتمع، وهو حريص على التكاثر، ولكن من أين يأتي التكاثر إذا لم يكن عنده ارتباط بالآخرة؟ هم يرغبون في الغرب بكثرة النسل، ويرغبوننا بقلة النسل، لأن المجتمع الإسلامي لا يخلف فقط، إنما يربي، {وقل رب ارحمهما كما ربياني} لم يقل: كما خلفاني، وأما الغرب فلا يربي، يخلفون الأولاد ويدخل الولد في سن الرجال وتدخل البنت في سن النساء وكل منهما يشق طريقه بنفسه، ولكن العد هناك تنازلي. أما في مجتمعاتنا الإسلامية فيحرصون كل الحرص على تقليل النسل، لأن المجتمع الإسلامي يربي نوعاً، وكل مسلم تربيه أنت قد يكون كسيدنا إبراهيم عليه السلام: {إن إبراهيم كان أمة} فقد تربي رجلاً بمئة رجل، وقد تربي رجلاً بأمة. الغرب حريص على إبعادنا، والإسلام حريص على أن نتقرب إلى الله عز وجل بالزواج.
الله عز وجل قال بنص القرآن العظيم: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج) [رواه البخاري]، وقال لأولياء الأمور من القمة إلى القاعدة، قال للجميع لأكبر مسؤول وأصغر مسؤول، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) [رواه البخاري ومسلم] قال لكل المسؤولين: {وأنكحوا الأيامى منكم}، ارجع إلى نفسك، وتذكر قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم) [رواه الترمذي].
سل نفسك ما أنت قائل لربك يوم القيامة؟ إذا كنت قادراً على الزواج ولم تتزوج فما أنت قائل لربك؟ أنت الآن لو جلست معي لاستطعت أن تعطيني قائمة طويلة عريضة بالأسباب والحجج لإقناعي بعزوفك عن الزواج، أنا بالنسبة لي أعلم ظاهرك لا باطنك، ولكن إذا كنت واثقاً بأنك إن قدمت الحجج لله عز وجل في عزوفك عن الزواج يبيض وجهك فتوكل على الله، ولكن إذا لم يكن عندك الجواب، فما هو موقفك من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ في يوم القيامة المخلوقات كلهم يقولون: الشفاعةَ يا رسول الله، فأنت بحاجة إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قلت: يا رسول الله الشفاعة، يقول لك: أنا قلت: (تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة) [رواه عبد الرزاق] فلم لم تتزوج؟ فما هو الجواب؟ وما أنت قائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما أنت قائل لربك القائل: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، وقد تأتي الأم وتقول: يا بني تقدم بي العمر وأنت تقدم بك العمر فتزوج حتى أرى ذريتك، فيقول: لا، فما أنت قائل لربك يوم القيامة، لم لم تدخل الفرحة والسرور إلى قلب والديك؟ وسيقول لك: سكنت في منطقة فاخرة، وبيتك واسع، وعندك ولد أو ولدان، لِمَ لم تكثر الأولاد؟ ستقول: العصر يتطلب منا غير هذا، إذاً أنت تقول لسيدنا رسول الله: معذرة يا رسول الله، أنا آتي بولد أو ولدين وأربيهم تربية جيدة وهذا يكفي، وإذا ربيت ولداً أو ولدين وأخذهم الله في ساعة واحدة؟ فأين بقية الأولاد؟
ويا ولي الأمر ويا ولي الشاب والفتاة، لم لا تزوج، وربنا عز وجل يقول: {وأنكحوا الأيامى منكم} تقول: لا يتجاوب معي، وإذا قصر معك في أمر من أمور الدنيا تلاحقه وتشد عليه! وقد قدمنا في الدروس الماضية أن الحجة من الله قائمة عليك، فإن لم يكن يملك المال فالله يقول: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}، قال: أنا أخاف أن يأتي الأولاد غير جيدين، لأن الشباب منحرفون، نقول لك: انظر إلى المسجد ففيه شباب من أهل الاستقامة، وربنا يقول: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب}، أتدري لِمَ لَمْ يطلعك الله على الغيب؟ حتى لا تقول: أنا أخاف من كذا. قال تعالى: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}، فأنت تأخذ بالأسباب، وما عدا ذلك لا يسعك إلا أن تمتثل أمر الله عز وجل.
سل نفسك: ما أنت قائل لربك يوم القيامة؟ أنت أيها التاجر لماذا لا تزوج الشباب، ألا تريد أن تتقرب إلى الله عز وجل بإعفاف شاب مسلم من الانحراف؟ أسرع (اغتنم خمساً قبل خمس: ... وغناك قبل فقرك) [رواه الحاكم وابن أبي شيبة] الآن المال موجود بين يديك، تقرب إلى الله عز وجل بإعفاف الشباب، والمسؤول كذلك، والأب كذلك، والأم كذلك.
قد يأتي شاب ويقول: أبي لا يتجاوب، وأمي لا تتجاوب، والمجتمع كذلك، وأنا بحاجة إلى الزواج ولا سبيل إليه، وقد تحصل عنده ردة فعل، فأحياناً إذا شعر الإنسان بأنه مظلوم أمام زيد من الناس يفكر بعملية الانتقام ممن حرمه من الحق، الكثير من الشباب يرغبون بالزواج وهذا أمر طبيعي، ولكن يعزفون عن الزواج لأسباب واهية من جملتها الآباء والأمهات والمجتمع، وما شابه ذلك، فإذا لم تجد مجتمعاً قال فيه مولانا عز وجل: {وتعاونوا على البر والتقوى} فالأغنياء لا يسألون، والآباء والأمهات كذلك، والمسؤولون كذلك، وأنت تتقلب على جمر من النار، فماذا تفعل؟ أتنتقم من المجتمع؟ أتقع في الخيانة والفاحشة؟
ربنا عز وجل يرشدك إلى الطريق السليم، فيقول مولانا عز وجل: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله} إذا كان المجتمع قد عصى الله فيك، فلا تعص الله أنت في المجتمع، لأن ربنا عز وجل يقول: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} نحن نريد أن نقلل عدد العصاة في المجتمع، فالمجتمع إذا عصى الله فيك ولم يساعدك في الزواج، فلا تزد عدد العصاة واحداً، ولكن قلل عدد العصاة، فلا تذهب للانتقام من المجتمع، فيسلك هذا العبد طريق الانحراف، والزنا، والفواحش، والأهواء والشهوات والعياذ بالله. ولكن ماذا تفعل؟ ربنا أرشدنا إلى ذلك فقال: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله} وهذا وعد من الله، ووعد الله لا يخلف. فالسبيل أن تسلك سبيل العفة، والعفة أن تأخذ بزمام نفسك، وأن تأخذ بزمام الشهوة، وأن ترد شهوتك عن محارم الله عز وجل، لأن الشهوة التي استودعها الله عز وجل فيك استودعها لوظيفة ومهمة، فلا تفرط فيها، لأنها نعمة ستسأل عنها يوم القيامة، فما أنت قائل لله عز وجل؟ ومتى يأتي الغنى؟
ما بين غمضة عين وانتباهتها |
|
يغير الله من حال إلى حال |
وبلحظة واحدة قد يأتيك الفرج من حيث لا تدري، ألم يأت الفرج لسيدنا إبراهيم وهو في النار؟ ألم يأت الفرج لسيدنا إسماعيل مع أمه هاجر عندما استودعهم سيدنا إبراهيم بجوار الكعبة؟ يأتي الفرج، ولكن أنت مبتلى ومختبر، وإذا كنت كذلك ورأيت المجتمع عصى الله فيك، فلا تعص الله في هذا المجتمع واسلك طريق العفة.
قد يقول قائل: أي طريق للعفة في هذا المجتمع، الشهوات، والنساء الفاجرات العاهرات المتبرجات اللواتي قال فيهن النبي صلى الله عليه وسلم: (نساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت لا يجدن ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) [رواه مسلم]، فهل يصبح الإنسان ملكاً؟ نعم، كن ملكاً في باطنك، الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم قهراً، وأنت لا تعص الله في ما أمر باختيارك، أقول لك: أنت تصبح أفضل من الملك، عندما تأخذ بزمام نفسك، وعندما تمتثل قول الله عز وجل: {وليستعفف}، أما إذا كانت عندك المقدرة على الزواج ولم تتزوج، فأنت واحد من اثنين: إما أن تكون ممن خالف أمر الله عز وجل وكان الزواج في حقه فرضاً، لأن الزواج قد يكون فرضاً إذا كان الإنسان يخشى على نفسه من الوقوع في المعصية، وهو قادر على الزواج ولم يتزوج، فهو عاص لله عز وجل. وإما أن تأمن على نفسك من الوقوع في الفاحشة، ولم تتزوج، فقد تركت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن في مجتمعنا اليوم سنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل يوم تغيب في المجتمع، إلا ما رحم ربي عز وجل، وإذا اختفت السنة ظهرت البدعة، والبدعة هنا العزوف عن الزواج، والسنة: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج) [رواه البخاري]، ومن ترك السنة عاتبه النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا عاتبك النبي صلى الله عليه وسلم فما أنت قائل؟
أما إذا كنت بحاجة إلى الزواج، ولم تجد سبيلاً ومعيناً، فاحذر المعصية، لأن ربنا عز وجل يقول: {وليستعفف}، والطريق إلى ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) [رواه البخاري ومسلم]. فأول طريق للاستعفاف الصوم، ثم أن تغض من بصرك وتحفظ فرجك، واسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، كما يروي النسائي عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكفى كفاه الله)، وربنا عز وجل قادر على أن يعفك في مجتمع النار فيه تلتهم الكبير والصغير، والفتنة تحرق الأخضر واليابس، فعندما يقول ربنا عز وجل: {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} النار تحرق الطائر الذي يمر من فوقها، وسيدنا إبراهيم سئل عن أفضل أيام حياته، فقال: عندما كنت في النار، لأنه كان في خلوة مع ربه سبحانه وتعالى.
وروى الترمذي عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة - اللهم اجعلنا منهم - شهيد، وعفيف متعفف، وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه). عبد عفيف متعفف، في هذا المجتمع الشهوات تتأجج وهو يقول بلسان الحال والمقال: إني أخاف الله رب العالمين، العين تدمع والقلب يحزن، وهو يريد أن يتزوج والمجتمع ظالم، فيعف نفسه عن محارم الله، فهو أول من يدخل الجنة.
ويروي الإمام أحمد عن سيدنا عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: (اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) فإذا غضضت بصرك عن النظر إلى النساء، فوالله الذي لا إله غيره ستجد حلاوة الإيمان في قلبك، وما أعظمها من سعادة عندما تذوق حلاوة الإيمان! ووالله إذا ذقت حلاوة الإيمان فسوف تقول كما قال ذلك العبد الصالح: نحن على لذة لو علمتها ملوك الأرض لجالدونا عليها بالسيوف. غض بصرك، ولا تقل أنا في مكان لا يعرفني فيه أحد، فالله يعرفك، ولا تستح من المخلوق وأنت لا تستحي من الخالق، إذا كنت تعتقد أن الله لا يراك فالخلل في إيمانك، وإذا كنت تعتقد بأن الله يراك فلم جعلت الله أهون الناظرين إليك؟
وروى الإمام البخاري عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: منهم: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)، فهذه لكونها ذات منصب لا أحد يتجرأ أن يطمع فيها، والجمال يُطمع فيه، ومع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: منهم، رجل) قال: رجل، ولم يقل شاب، من هذا الرجل؟ {من المؤمنين رجال} أسأل الله أن يجعلنا منهم، من الذي يحول بيننا وبين الله، ومن الذي استعان بالله ولم يعنه الله؟ ومن الذي قال يا رب وتخلى عنه الله؟ يُذكر أن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب إذا قال عبدك الطائع يا رب فما تقول له؟ قال: أقول له: لبيك عبدي، قال: وإذا قال عبدك العاصي يا رب فما تقول له؟ قال: أقول له لبيك عبدي لبيك عبدي لبيك عبدي. فإذا قلت يا رب لتحتمي من الفتنة، ويا رب أريد أن أعف نفسي، وأريد أن أكون في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، من الذي دعا الله فلم يجبه مولانا عز وجل؟
(رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)، وهذا معقول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق عندما يقول: سبعة، فهذه السبعة في ظل عرش الرحمن، وهذه السبعة موجودة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) [رواه مسلم]. اللهم اجعلنا منهم.
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عندما نزل عليه قوله تعالى: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً} وربى أصحابه الكرام على هذه العفة، علمنا صلى الله عليه وسلم أنك أيها الشاب إذا سلكت طريق العفة أصبحت محبوباً عند الله، وإذا أصبحت محبوباً عند الله، فالنتيجة: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) [رواه البخاري]. ويعطيك رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً على ذلك إذا كنت عفيفاً واتقيت الله في أعراض الناس، فإذا ظلمك المجتمع فلا تظلم المجتمع، ولكن كن عفيفاً، وكن حريصاً على أعراض الناس، ولا تسلك الطريق المنحرف كما هو حال الشباب اليوم الذي لا يرضاه الواحد منهم لنفسه.
جاءني شاب في هذا اليوم إلى دائرة الإفتاء، وقال: إذا سمحت أجر لنا عقد زواج، قلت: أين؟ قال: هنا، قلت: لم؟ قال: نريد أن نتزوج بطريق مشروع، قلت: لم لا تسجل زواجك في المحكمة؟ قال: نريد أن نجريه الآن خارج المحكمة. قلت: أين أبوها؟ قال: الآن لا نريد أن يعلم أبوها، وهي بالغة وعاقلة وخريجة جامعة وتفهم، قلت: أنا سأجري لك العقد ولكن بشرط، إذا جاءتني أختك في غد وطلبت مني أن أجري لها عقد زواج على رجل بدون علمك فسأجري لها العقد، أترضى؟ قال: لا، أغضب، قلت: لم؟ أعراض الناس عندك مجاناً؟ ربنا عز وجل يقول لك: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً} فإن ظلمك المجتمع فلماذا هذا الرجل يقيم علاقات من فتيات، ومع طالبات في الجامعة، ولقاءات بطرق غير مشروعة؟ أترضى هذا لنفسك ولعرضك، والعاقل لا يرضى هذا لنفسه ولا لعرضه، ولذلك طلب منك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسلك طريق العفاف، وأن تكون رجلاً.
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها. فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه ناء بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء. وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار فلقيتها بها، فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم، فقمت عنها، اللهم فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها، ففرج لهم فرجة. وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً بفرق أرز، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي فعرضت عليه حقه فتركه ورغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً وراعيها، فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني وأعطني حقي، فقلت: اذهب إلى ذلك البقر وراعيها، فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقلت: إني لا أهزأ بك فخذ ذلك البقر وراعيها، فأخذه فانطلق بها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج ما بقي ففرج الله عنهم. [رواه البخاري].
يحدثك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك إذا أصبحت عفيفاً أصبحت قريباً من الله، واستجاب الله دعاءك، حدثنا صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة آواهم المبيت إلى غار، فانحدرت صخرة عظيمة فأغلقت عليهم باب الغار، فماذا يفعلون؟ قولوا: الحمد لله القائل: {وهو معكم أينما كنتم} فما أعظم هذه النعمة أن ربك معك! أبوك ليس معك دائماً، وحاكمك ليس معك دائماً، والغني والمسؤول عنك والتاجر ليس معك دائماً، فربما أن تنقطع في طريق، ولكن الحمد لله أن ربك الذي هو على كل شيء قدير يقول: {وهو معكم أينما كنتم} في الوقت الذي تريد، وباللغة التي تريدها، فلا يشترط أن تنمق الكلمات مع الله عز وجل، وأنزل حوائجك على باب ربك، ولا حاجة أن ترفع صوتك، لأنه أقرب إليك من حبل الوريد، فإذا شعرت أنك في حالة بعد عن الله، فناده، وإذا شعرت أنك بحالة قرب، فناجه، وإذا انكسر قبلك لله فإنك تشعر بقربه، ولذلك ربما أن تناجيه بالحال دون المقال. قال سيدنا جبريل لسيدنا إبراهيم عليه السلام عندما ألقي في النار: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال جبريل: فسل ربك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي [أورده البغوي في التفسير عن كعب الأحبار]. فلذلك ربك معك {وهو معكم أينما كنتم}، فناجه وناده باللغة التي تريد.
هؤلاء انحدرت عليهم الصخرة، ولا يوجد جوال ولا اتصالات، وبدؤوا ينتظرون الموت البطيء، احفظوا هذه الكلمة ورددوها دائماً: (لا كرب وأنت ربي)، لأنه إذا انقطعت الأسباب فمن وراء الأسباب مسببها وهو الله، فلا تخف، {قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي}.
انحدرت الصخرة، فقال بعضهم لبعض: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم. والآن أنت ما هو رصيدك عند الله، في أيام شبابك وأيام ظلم المجتمع لك فلم يزوجك، وضيَّق عليك الأسباب، فكنت عبداً باراً وفياً، وكنت من أهل التقى، فما عصيت الله فيمن عصى الله فيك، إذاً لك رصيد عند ربك، ومن كان عنده رصيد وضاقت عليه الأسباب فمباشرة يطلب هذا الرصيد.
فقال أحدهم: اللهم إني كانت لي ابنة عم، كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها فامتنعت عني، - الخيانة ليست جديدة في المجتمع أيها الإخوة، قد يخون الرجل عمه، أو خاله، أو عمته، أو أخاه، وقد يخون نفسه وعرضه والعياذ بالله، وأنت أيها العم لا تقل لابن أخيك: تفضل هؤلاء أخواتك، فطالما أنه يحل له أن يتزوج منها فقد ينظر إليها بشهوة، فالأخت لا يحق لك أن تتزوجها فلا تنظرُ إليها بشهوة، والخالة والعمة والأم، أما من حل لك النكاح منها فقد تنظر إليها بشهوة، وكذلك زوجة الأخ يحق لك زواجها بعد موت زوجها أو بعد طلاقها، وكذلك بنت العم والخال والعمة والخالة، وللأسف كثير من الناس الاختلاط عندهم طبيعي، يدخل الرجل على بنات عمه، ويقول الآباء: الأمر طبيعي، ونحن قد ربينا أولادنا تربية جيدة، فإذا جلس مع بنت عمه أو مزح معها، فالأمر أقل من طبيعي، لا نخاف، ولكن قد تجري الماء من تحت أقدامك وأنت والله لا تدري، كن وقافاً عند حدود الله، (إياكم والدخول عن النساء) [رواه البخاري].
قال هذا الرجل: يا رب كانت لي ابنة عم فطلبتها لنفسي، وطبعاً بطريق غير مشروع، ولو كان بطريق مشروع لطلبها من عمه، وكانت المرأة في حالة غفلة عن الله، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مئة دينار، - أي ما يساوي خمسمئة غرام من الذهب – قال: فذهبت فتعبت في جمعها، سبحان الله في طريق الحرام يتعب الإنسان في الجمع، ويزهد في طريق الحلال! قال: فدفعت لها مئة دينار، فمكنتني من نفسها، وكأنها تابت إلى الله، فنظرت إلى الرجل وقالت: يا عبد الله، اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه. طبعاً في مثل هذا الحال إن لم يوجد الإيمان فالأمر خطير. وأراد الله به خيراً، فقام عنها، وهي أحب الناس إليه، فقال: يا رب إن فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة.
عندما تسلك طريق العفاف يؤيدك الله في سمعك وبصرك ويدك ورجلك، ويجعل الله عز وجل دعاءك مستجاباً، فربما أن ترى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) [رواه مسلم] {إن أكرمكم الله عند الله أتقاكم} ما قال أعلمكم ولا أطولكم لحية، وإنما قال: {أتقاكم} ومن جملة التقوى أن تسلك طريق العفاف.
أيها الإخوة: نرجع إلى البداية التي بدأنا منها: ما أنت قائل لربك إذا كنت تستطيع الزواج فلم تتزوج؟ وما أنت قائل لربك إذا كنت تستطيع أن تُزَوِّج فلم تُزَوِّج؟ وأقول كذلك: لا تعص الله فيمن عصى الله فيك. فإذا كنت تستطيع الزواج فتزوج اليوم قبل غدٍ، لأنك لا تدري متى ينتهي هذا الأجل. يُذكر أن أحد الأئمة توفيت امرأته صباحاً فتزوج عصراً، فقيل له في ذلك، فقال: إني أكره أن ألقى الله وأنا عازب. ماذا تقول لله: هل تملك المال أم لا تملك؟ فإذا لم تستطع الزواج لقلة ذات اليد، وإذا لم تجد من يزوجك ولم تجد معيناً فاسلك طريق العفاف {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً}. فقد تقول يا رب: أنا عبد ضعيف عاجز، يقول لك: أنا أعرف ضعفك وعجزك، ولكن دعوتك أن تحتمي بي، فهل احتميت بالله وما حماك الله؟
إذاً إما أن تتزوج إذا كنت قادراً، وإما أن تُزَوِّج إذا كنت قادراً، وإما أن تسلك طريق العفاف، وإن سلكت طريق العفاف فأنا أتوسل إليك أن تدعو الله لي في ظهر الغيب دعوة صالحة، ولعلنا أن نتابع الحديث في الدرس القادم إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.
** ** **
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
لِتَحْقِيقِ السَّعَادَةِ في حَيَاتِنَا الأُسَرِيَّةِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ تَعَامُلَاً صَحِيحَاً، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتِّلَاوَةِ مَعَ التَّدَبُّرِ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ... المزيد
كُلَّمَا تَذَكَّرْنَا يَوْمَ الحِسَابِ، يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ تعالى، يَوْمَ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلَاً، وَكُلَّمَا تَذَكَّرْنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَنَعِيمَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ، ... المزيد
صَلَاحُ أُسَرِنَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الغَايَةَ مِنْ وُجُودِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ الكَثِيرُ مِنَ الأَزْوَاجِ مِمَّنْ دَخَلَ الدُّنْيَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ لَا يَدْرِي وَلَا يَعْلَمُ لِمَاذَا ... المزيد
القُرْآنُ العَظِيمُ الذي أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَاصْطَفَانَا لِوِرَاثَتِهِ هُوَ مَصْدَرُ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَمَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ في حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَعَلَيْهِ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاءِ البُيُوتِ، وَكَثْرَةِ الخِلَافَاتِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، المَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ، التي تُنَكِّسُ الرُّؤُوسَ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، وَالتي تُسْلِمُ إلى مُقَاسَاةِ العَذَابِ الأَلِيمِ في الدُّنْيَا قَبْلَ ... المزيد
سِرُّ سَعَادَتِنَا في حَيَاتِنَا الزَّوْجِيَّةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَحَوُّلِنَا مِنَ الشَّقَاءِ إلى السَّعَادَةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ هِدَايَتِنَا مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَمَاسُكِ أُسَرِنَا ... المزيد