37ـ مع الحبيب المصطفى: وفاؤه    لأهله الكرام (2)

37ـ مع الحبيب المصطفى: وفاؤه    لأهله الكرام (2)

 

 مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

37ـ وفاؤه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لأهله الكرام رَضِيَ اللهُ عنهُ ـ وخاصة السيدة خديجة رَضِيَ اللهُ عنها وأرضاها (2)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: الجَزاءُ من جِنسِ العَمَلِ، وكما تَدينُ تُدانُ، جَزاءُ الإحسانِ الإحسانُ، وجَزاءُ الوَفاءِ الوَفاءُ، وجَزاءُ العَطاءِ العَطاءُ.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: أمُّنا السَّيِّدَةُ خديجَةُ رَضِيَ اللهُ عنها وأرضاها قَدَّمَت لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَوَقَفَت بِجانِبِهِ، حتَّى كانَت وزيرَةَ صِدْقٍ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

لقد كانَت حَريصةً على القُربِ من سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وخاصَّةً بعدَ أن اختارَهُ اللهُ تعالى لِيَكونَ آخِرَ رُسُلِ الله إلى الثَّقَلَينِ، ولكن كانَ حِرصُها الأشَدُّ على راحَةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وعلى عَونِهِ على مُواصَلَةِ العِبادَةِ والتَّبَتُّلِ لله تعالى، لقد كانَت رَضِيَ اللهُ عنها وأرضاها على مَقرُبَةٍ منهُ دائِماً تَحومُ حَولَهُ، تَسألُ عنهُ، تَطمَئِنُ عليه، لا تَنقَطِعُ عنهُ، تَظَلُّ رائِحَةً غادِيَةً إلى غَارِ حِراءَ في جَبَلِ النُّورِ تُوَفِّرُ لهُ الطَّعامَ والشَّرابَ وأَسبابَ الرَّاحَةِ.

البُشرى من الله تعالى للسَّيِّدَةِ الجليلَةِ رَضِيَ اللهُ عنها وأرضاها:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: ربُّنا عزَّ وجلَّ هوَ المُحسِنُ والمتَفَضِّل، وحَاشَا لِرَبِّنا عزَّ وجلَّ أن يَرى عَبداً غَيُوراً على حَبيبِهِ المُصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ويَتَخَلَّى عنهُ، حَاشَا لِرَبِّنا عزَّ وجلَّ أن يَراكَ مُحسِناً ولا يُحسِنُ إليكَ، كيفَ وهوَ القائِلُ: ﴿هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَان﴾؟

قَدِمَتِ السَّيِّدَةُ خديجَةُ رَضِيَ اللهُ عنها وأرضاها إلى سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يوماً إلى غارِ حِراءَ، وهيَ حامِلَةٌ الإدَامَ والشَّرابَ، وهيَ السَّيِّدَةُ الجَليلَةُ الكبيرَةُ في قَدْرِها وعُمرِها، وكانَ بِإمكانِها أن تُرسِلَ ذلكَ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ معَ غُلامِها، ولكن أبَت إلا أن تَخدِمَ سَيِّدَنَا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ  بِنَفسِهَا، وجَاءَتِ البُشرى لها مِنَ الله تعالى.

روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ.

وحينَ أبلَغَها رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هذهِ البُشرى، لم تُذهِلْها البُشرى معَ رَوعَتِها، وإنَّما أجابَت بعقلٍ وافِرٍ كما جاءَ في الحديثِ الشَّريف الذي رواهُ الحاكم عن أنس رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: (أَتَى جِبرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَعِندَهُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عنهَا، فَقَال: إِنَّ اللهَ يُقرِئُ خَدِيجَةَ السَّلامَ، فَقَالت: إنَّ اللهَ هوَ السَّلامُ، وعليكَ السَّلامُ ورحمَةُ الله وبَرَكاتُهُ).

أيُّ عَقلٍ حَباكِ اللهُ به يا أيَّتُها الطَّاهِرَةُ!! وأيُّ فِقهٍ صَدَرَ عنكِ قبلَ أن يُعرَفَ الفِقهُ وأصولُهُ وفُروعُهُ!! لقد قُلتِ: (إنَّ اللهَ هوَ السَّلامُ). فقد أثنَيتِ على الله تعالى وذَكَرتِهِ باسمٍ من أسمائِهِ، نَعَم، إنَّ اللهَ هوَ: ﴿السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُون﴾.

هَنِيئَاً يا أمَّنَا بِهذَا البَيتِ مِنَ القَصَبِ المَنظُومِ بالدُّرِّ واللُّؤلُؤِ واليَاقوتِ، كما جَاءَ عَنِ السَّيِّدَةِ فاطمةَ الزَّهراءِ رَضِيَ اللهُ عنها إذ سألَتِ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ أُمُّنَا خَدِيجَةُ؟

قَالَ: «فِي بَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا لَغْوٌ فِيهِ وَلَا نَصَبٌ، بَيْنَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ».

قَالَتْ: أَمِنْ هَذَا الْقَصَبِ؟

قَالَ: «لَا، مِنَ الْقَصَبِ الْمَنْظُومِ بِالدُّرِّ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ» رواه الطبراني.

نَعَم أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: بَشَّرَها ربُّنا عزَّ وجلَّ بِبَيتٍ، ولم يَقُل بِقَصرٍ، لأنَّ البيتَ يَدُلُّ على السَّكينَةِ والطُّمأنينَةِ والأمنِ، لقد كانَت وهيَ تَقِفُ بِجانِبِ الزَّوجِ الحَبيبِ الرَّسولِ المُصطَفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وهوَ يَتَلَقَّى الأذى من قُرَيشٍ، لقد كانَت تُزيلُ كُلَّ وَحشَةٍ، وتُهَوِّنُ عليهِ كُلَّ عسيرٍ، راضِيَةً مُحتَسِبَةً.

لقد شاركَت سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في كُلِّ أمورِهِ وهُمومِهِ، واختارَتِ المُقامَ معَهُ في الشِّعبِ المحاصَرِ ثلاثَ سَنَواتٍ، وهيَ صابِرَةٌ على مَشَقَّةِ الجوعِ وتَعَبِ البَدَنِ، وهيَ تَخطو نحوَ السِّتِّينَ من عُمرِها، تَرَكَت غِناها ومَكانَتَها لِتَقِفَ بِجانِبِ الحَبيبِ المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وهيَ تَرى الظَّلَمَةَ من كُبَراءِ قُرَيشٍ يُسيئونَ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ولِأصحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عنهُم.

فكانَ ثَوابُها مِنَ الله تعالى عَظِيماً، بَيتٌ في الجنَّةِ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ، قال فيها الحَبيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ» متَّفَقٌ عليه عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

ويَكفِيها ذَلكَ فَخراً، ويَكفِيها ذَلكَ جَزاءً مِن رَبٍّ شَكُورٍ.

وَفاؤهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للسَّيِّدَةِ خديجَةَ رَضِيَ اللهُ عنها وأرضاها:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: إذا كانَ من شأنِ الكِرامِ أن يُقابِلوا الإساءَةَ بالإحسانِ، وذلكَ لقولِهِ تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾. ولقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» رواه الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وفي رواية أخرى لابن النجار عن عَليِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَال: (وَجَدنَا فِي قَائِمِ سَيفِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اعفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَصِلْ مَنْ قَطعَكَ، وأحْسِنْ إِلى مَن أَسَاءَ إِليكَ، وقُلِ الحقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ».

فكيفَ يُقابِلونَ الإحسانَ؟ لا شَكَّ يُقابِلونَهُ بإحسانٍ أعظَمَ.

نَعَم، لقد قَابَلَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إحسانَ السَّيِّدَةِ خديجَةَ رَضِيَ اللهُ عنها وأرضاها بإحسانٍ أعظَمَ.

أولاً: كَانَ حَريصاً على ما يَسُرُّها ويُرضيها، فلم يَتَزَوَّجْ عليها حتَّى لا يُسَبِّبَ لها أدنى أذىً في حَياتِها.

ثانياً: سَمَّى العامَ الذي تُوُفِّيَت فيهِ السَّيِّدَةُ خديجَةُ رَضِيَ اللهُ عنها وأرضاها عامَ الحُزنِ.

ثالثاً: بَقِيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُحافِظاً على وُدِّها وحُبِّها وتقديرِها واحتِرامِها بعدَ وفاتِها، بَل ظَلَّ يَذكُرُها ويَتَذَكَّرُها دَائماً.

رابعاً: كَانَ يُصَرِّحُ بِحُبِّها أمامَ زوجاتِهِ رَضِيَ اللهُ عنهُنَّ، بل أمامَ السَّيِّدَةِ عائشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها التي أحَبَّها بِصُورَةٍ خاصَّةٍ، حيثُ كانَ يقولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» رواه أبو داوود عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

وروى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، فَغِرْتُ يَوْماً، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا، حَمْرَاءَ الشِّدْقِ ـ جَانِبَ الفَم ـ قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْراً مِنْهَا.

قَالَ: «مَا أَبْدَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ».

وتقولُ السَّيِّدَةُ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ.

فَيَقُولُ: «إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ» رواه الإمام البخاري.

وتقولُ السَّيِّدَةُ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَأَمَرَهُ اللهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلَائِلِهَا ـ صَدَائِقِهَا جَمْع خَلِيلَة وَهِيَ الصَّدِيقَة ـ مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ. رواه الإمام البخاري.

وتقولُ رَضِيَ اللهُ عنها: مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ، وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا، وَكَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ فَيَقُولُ: «أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ».

قَالَتْ: فَأَغْضَبْتُهُ يَوْماً، فَقُلْتُ: خَدِيجَةُ.

فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا» رواه الإمام مسلم.

وتقولُ رَضِيَ اللهُ عنها: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ـ أُخْتُ السِّيَّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عنها وأرضاها ـ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ ـ أي أَفزَعَتهُ ـ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَالَةَ».

قَالَتْ: فَغِرْتُ، فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ خَيْراً مِنْهَا. رواه الشيخان.

خامساً: روى الحاكم عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: جاءَت عَجوزٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وهوَ عندي، فقال لها رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «من أنتِ؟».

قالت: أنا جُثامَةُ المُزَنِيَّةُ.

فقال: «بَل أنتِ حَسَّانَةُ المُزَنِيَّةُ، كيفَ أنتُم؟ كيفَ حَالُكُم؟ كيفَ كُنتُم بَعدَنا؟».

قالت: بِخَيرٍ، بأبي أنتَ وأمِّي يا رسولَ الله.

فلمَّا خَرَجَت قُلتُ: يا رسولَ الله، تُقبِلُ على هذهِ العَجوزِ هذا الإقبالَ؟

فقال: «إنَّها كانَت تَأتينَا زَمَنَ خَديجَةَ، وإنَّ حُسنَ العَهدِ من الإيمانِ».

هنيئاً لكِ أيَّتُها الطَّاهِرَةُ:

يا أمَّاهُ، هنيئاً لكِ أيَّتُها الطَّاهِرَةُ حُبُّ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَوَفاؤُهُ، هنيئاً لكِ مكانَتُكِ العظيمَةُ في قَلبِهِ الشَّريفِ الكبيرِ، هنيئاً لكِ أعظَمُ بُشرى تَلَقَّاها بَشَرٌ بعدَ الأنبِياءِ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، هنيئاً لكِ حُبُّ المسلِمينَ جميعاً في أقطارِ الدُّنيا، هنيئاً لكِ كُلُّ المسلمينَ يَجعَلونَكِ في القِمَّةِ بينَ النِّساءِ لما حَمَلتِهِ من صِفاتِ الخَيرِ والحَقِّ والنُّبلِ.

عَلوتِ فلم تُدرَك مَـقاماتُكِ الكُبرى    ***   فغيرُكِ لا تُدعى ـ وإن عَظُمَت ـ كُـبرى

وكـم في نِـساءِ الـعـالمينَ عــظـيـمَـةٌ   ***   ولـكـنَّها إن قُورِنَت بكِ فـالـصُّـغـرى

وأصـبَحتِ مَـهداُ للـرِّسالَةِ حــاضِناً   ***   تَـلَـقَّـيتِها مـن حــينِ مـا نَزَلَــت إقـرَا

وأنـتِ الــتي طَـمـأنـتِ طــه بـأنَّـهُ   ***   تَـلَـقَّــى مـِـنَ الله الرِّسـالَـةَ والـذِّكـرَا

وزَمَّــلـتِــهِ، دَثَّــرتِــهِ، ولــوَرَقَـــه   ***   ذَهَـبـتِ بـه يَـتلُـو عـليـه الــذي يَـقرَا

ولمَّا أتى جِبريلُ قُمتِ بِخَلعِكِ النِّقابَ   ***   فــلـم يَـمـكُـث فـأعـلَـنـتِها بُـشـرَى

كَـتَبـتِ حُـروفاً مــن حـيـاةِ مُحَـمَّـدٍ   ***   فـأصـبَحـتِ في أعـلى صَحَائِفِـها سَطرَا

وقـد شَـكَـرَ المولى صَـنيـعَـكِ إنَّـــهُ   ***   الـشَّكورُ وهذا الفِعلُ يَستَوجِبُ الشُّكرَا

فـأهـداكِ مــولاكِ الــسَّلامُ سَـلامَهُ   ***   وأَعـطاكِ في الفِردَوسِ من قَصَبٍ قَصرَا

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: هل شَمِمْنا رائِحَةَ الوَفاءِ لِنِسائنا من خِلالِ سِيرَةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

إنَّ من أحَقِّ النَّاسِ بالوَفاءِ منكَ هيَ زوجَتُكَ التي شاطَرَتْكَ الحياةَ، وتَحَمَّلت معَكَ الأعباءَ، وشارَكَتْكَ في مسيرَةِ حياتِكَ، بَذَلَت كثيراً، وقَدَّمت كثيراً، فهل تَحفَظُ لها ذلكَ؟

مَن منَّا يَذكُرُ فَضَائِلَ زوجَتِهِ ومَعرُوفَها عليه، وخاصَّةً في ساعَةِ الغَضَبِ؟

مَن منَّا يَعتَرِفُ بِفَضَائِلِ زوجَتِهِ في حَياتِها وبعدَ مَوتِها؟

أليسَ الخَيرُ كلُّ الخَيرِ في اتِّباعِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: يَجِبُ على العَبدِ المُؤمِنِ قَبلَ أن يَتَّخِذَ القَرَارَ السَّلبيَّ من زَوجَتِهِ، وقَبلَ الإساءَةِ إليهَا، وقَبلَ جَرحِ شُعُورِهَا بِقَولٍ أو فِعلٍ، أن يَتَأمَّلَ هل يَتَنَاسَبُ هذا القَرارُ والإساءَةُ وجَرحُ الشُّعُورِ بِقَولٍ أو فِعلٍ مَعَ ما بينهُمَا مِن عِشرَةٍ كانت بينَهُمَا مُدَّةً مِنَ الزَّمَن؟

والله الذِي لا إِله غَيرُهُ لو تَعَلَّمنا الوَفاءَ من سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لما رأيتَ أفواجَ المطَلَّقاتِ والمعَلَّقاتِ والمَكلُوماتِ المَظلُوماتِ في مُجتَمَعِنا.

أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: عليَّ وعليكُم بِخُلُقِ الوَفاءِ المُستَمَدِّ من أخلاقِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. اللَّهُمَّ أكرِمنا بذلكَ. آمين.

وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 21/رجب /1434هـ، الموافق: 30/أيار/ 2013م
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  مع الحبيب المصطفى   

26-06-2019 2372 مشاهدة
316ـ العناية الربانية بالحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ

مِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ سَخَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ المَوْجُودَاتِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ صَلَّى ... المزيد

 26-06-2019
 
 2372
20-06-2019 1406 مشاهدة
315ـ سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى

الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد

 20-06-2019
 
 1406
28-04-2019 1195 مشاهدة
315ـ«لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ»

الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد

 28-04-2019
 
 1195
28-04-2019 1198 مشاهدة
314ـ في محط العناية

لَقَدِ رَحِمَ اللهُ تعالى هَذِهِ الأُمَّةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرَاً وَنَذِيرَاً، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ ... المزيد

 28-04-2019
 
 1198
21-03-2019 1848 مشاهدة
313- مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾

فَعَلَى قَدْرِ التَّحَمُّلِ يَكُونُ الأَدَاءُ، وَبِحَسْبِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ المُهِمَّةُ، لِذَلِكَ عَلَّمَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِهِ العَظِيمِ مَا لَمْ يَكُنْ ... المزيد

 21-03-2019
 
 1848
13-03-2019 1713 مشاهدة
312- مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:«فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ»

وَجَاءَتْ تَارَةً بِمَدْحِ أَهْلِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾. وَقَالَ: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا ... المزيد

 13-03-2019
 
 1713

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414947676
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :