مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالفَتوى فَرضٌ على الكِفايَةِ، ولم تَكُنِ الفَتوى فَرضَ عَينٍ، لأنَّها تَقتَضي تَحصِيلَ عُلومٍ جَمَّةٍ، فَلَو كُلِّفَها كُلُّ وَاحِدٍ لأَفضَى إلى تَعطيلِ أَعمالِ النَّاسِ ومَصالِحِهِم، لانصِرافِهِم إلى تَحصِيلِ عُلومٍ بِخُصوصِهَا.
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾. وقال تعالى مُؤَكِّداً على فَرضِيَّتِها: ﴿وَإِذ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾.
وحَذَّرَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من كِتمانِ العِلمِ من العَالِمِ إذا تَيَقَّنَ، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ، ثُمَّ كَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وقد كانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَتَهَيَّبونَ مِن الفَتوى، وكَانَ العَالِمُ منهُم يُحيلُ إلى غَيرِهِ خَوفَاً مِن المَسؤولِيَّةِ بينَ يَدَيِ الله عزَّ وجلَّ.
يقولُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي ليلى: أدرَكتُ مِائَةً وعِشرينَ مِن أصحابِ رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُسأَلُ أحَدُهُم عن المسأَلَةِ، فَيَرُدُّها هَذا إلى هَذا، وهذا إلى هذا، حتَّى تَرجِعَ إلى الأوَّلِ.
مَنزِلَةُ الفَتوى:
أيُّها الإخوة الكرام: يقولُ الإمامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: المُفتي مُوَقِعٌ عن الله تعالى. اهـ.
ويقولُ ابنُ المُنكَدِرِ: العالِمُ بينَ الله تعالى وبينَ خَلقِهِ، فَليَنظُر كيفَ يَدخُلُ بينَهُم. اهـ.
تَهَيُّبُ الإفتاءِ والجُرأةُ عليه:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ مَوضوعَ الفَتوى هوَ بَيانُ أَحكامِ الله تعالى، وتَطبيقِها على أَفعالِ النَّاسِ، فهِيَ قَولٌ على الله تعالى، يَعني: يقولُ المُفتي للمُستَفتي: حَقٌّ عَليكَ أن تَفعَلَ، أو حَرامٌ عليكَ أن تَفعَلَ، وهذا شيءٌ خَطيرٌ.
اللهُ تبارَكَ وتعالى أَفتَى لِعِبادِهِ، قال تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ﴾. وقال تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ﴾.
لذلكَ كَلَّفَ اللهُ تعالى سيِّدَنا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالفَتوَى، وذلكَ من مُقتَضى رِسَالَتِهِ، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون﴾.
فالمُفتي خَليفَةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في أداءِ وَظيفَةِ البَيانِ، وقد تَوَلَّى هذهِ الخِلافَةَ بعدَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أصحابُهُ الكِرامُ، ثمَّ أهلُ العِلمِ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَذَّرَ اللهُ تعالى في كِتابِهِ العَظيمِ من الجُرأةِ على الفُتيا بدونِ عِلمٍ، فقال تعالى: ﴿وَلا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلالٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لا يُفْلِحُون﴾.
وروى الدارمي عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ أَبِى جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا، أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ».
ويقولُ سَحنونُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْماً.
ويقولُ الإمام مالكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: مَنْ أَجَابَ فِي مَسْأَلَةٍ فَيَنْبَغِي قَبْلَ الْجَوَابِ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَكَيْفَ خَلَاصُهُ، ثُمَّ يُجِيبُ.
ونُقِلَ عنهُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يُسْأَلُ عَنْ خَمْسِينَ مَسْأَلَةً، فَلَا يُجِيبُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا.
أيُّها الإخوة الكرام: الإفتاءُ بغَيرِ عِلمٍ حَرامٌ، لأنَّهُ يَتَضَمَّنُ الكَذِبَ على الله تعالى وعلى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ويَتَضَمَّنُ إضلالَ النَّاسِ، وهوَ كَبيرَةٌ من الكَبائِرِ، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى الله مَا لا تَعْلَمُون﴾.
وروى الشيخان عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
إنَّ اللهَ حَدَّ حُدُوداً فَلا تَعْتَدُوهَا:
أيُّها الإخوة الكرام: التَّكليفُ من الله تعالى هوَ فِعلُ المَأموراتِ، وتَركُ المَحظُوراتِ، وكُلُّ ذلكَ بِوُسعِ العبدِ، قال تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا﴾.
وروى الإمام الحاكم عن أبي ثَعلَبَةَ الخُشَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إنَّ اللهَ حَدَّ حُدُوداً فَلا تَعْتَدُوهَا، وفَرَضَ لكم فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَتَرَكَ أشْيَاءَ من غَيْر نِسْيَانٍ من ربِّكُم، ولكن رَحْمَةً منهُ لَكُمْ، فاقبَلوها ولا تَبْحَثُوا فيها».
وقال تبارَكَ وتعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾. ومن هُنا شَدَّدَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الإنكارَ على مَن كَانَ سَبَباً في تَحريمِ شيءٍ أصلُهُ الإباحَةُ، فَسَألَ عنهُ فَحُرِّمَ بِسَبَبِ سُؤالِهِ.
روى الشيخان عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْماً مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ».
فالأصلُ في التَّكاليفِ الشَّرعِيَّةِ ما جاءَ فيهِ الأمرُ من الله تعالى، ومن رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وكذلكَ ما يَتَعَلَّقُ في النَّهيِ، وأوضَحَتِ الآيَةُ الكَريمَةُ هذا، بقَولِهِ تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾.
وأمَّا ما سَكَتَ عنهُ الشَّارِعُ الشَّريفُ فهوَ مُباحٌ، كما جاءَ في صحيحِ الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ، فَحُجُّوا».
فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله؟
فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثاً.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ»
ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ».
أيُّها الإخوة الكرام: لو رَجَعنا إلى كِتابِ الله عزَّ وجلَّ، وإلى سُنَّةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ونحنُ نَبحَثُ عن مَقولَةٍ ظَهَرَتِ اليَومَ على ألسِنَةِ بعضِ طَلَبَةِ العِلمِ: هذا شَيءٌ لم يَفعَلْهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولا أَصحَابُهُ الكِرامُ رَضِيَ اللهُ عنهُم، وجَعَلوا من هذهِ المَقولَةِ مُستَنَداً لِتَحريمِ بعضِ الأمورِ المُباحَةِ التي لم يَرِدْ في الشَّرعِ دَليلٌ على تَحريمِها.
التَّركُ ليسَ حُجَّةً في التَّحريمِ:
أيُّها الإخوة الكرام: تَحريمُ أمرٍ من الأُمورِ يَحتاجُ إلى دَليلٍ من كِتابِ الله تعالى، أومن سُنَّةِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وإلا وَقَعَ من حَرَّمَ أَمراً من الأُمورِ تحتَ قَولِهِ تعالى: ﴿وَلا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلالٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لا يُفْلِحُون﴾.
أمَّا إذا تَرَكَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَمراً، أو تَرَكَ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللهُ عنهُم أَمراً من الأُمورِ، فَليسَ هذا دَليلٌ على التَّحريمِ، وهذا ما أوضَحَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أولاً: أحرامٌ الضَّبُّ يا رسولَ الله؟:
روى الشيخان عن عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سَيْفُ الله أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عنهُم جميعاً.
فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبَّاً مَحْنُوذاً ـ مَشوِيَّاً ـ قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتِ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ، فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدَّمُ إِلَيْهِ طَعَامٌ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ، فَأَهْوَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ.
فَقَالَت امْرَأَةٌ مِنْ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ: أَخْبِرْنَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ.
قُلْنَ: هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ الله.
فَرَفَعَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ.
فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ الله؟
قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ».
قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ، فَأَكَلْتُهُ، وَرَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ، فَلَمْ يَنْهَنِي.
فهل تَرْكُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أكلَ الضَّبِّ جَعَلَهُ حراماً؟
ثانياً: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ»:
روى الإمام البخاري عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوساً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ.
فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا.
فَقَالَ: «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟»
قَالُوا: لَا.
قَالَ: «فَهَلْ تَرَكَ شَيْئاً؟»
قَالُوا: لَا.
فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى.
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، صَلِّ عَلَيْهَا.
قَالَ: «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟»
قِيلَ: نَعَمْ.
قَالَ: «فَهَلْ تَرَكَ شَيْئاً؟»
قَالُوا: ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ.
فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهَا.
قَالَ: «هَلْ تَرَكَ شَيْئاً؟»
قَالُوا: لَا.
قَالَ: «فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟»
قَالُوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ.
قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ»
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ الله، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ.
فهل بِتَرْكِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ على المَدينِ الذي لم يَتْرُكْ وَفاءً، صارَتِ الصَّلاةُ على المَدينِ حَراماً؟
ما انتَقَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِنَفسِهِ قَطُّ:
أيُّها الإخوة الكرام: لو قَرَأنا سِيرَةَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فإنَّا لا نَجِدُ بأنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ انتَقَمَ لِنَفسِهِ قَطُّ، بل كانَ يَعفو ويَصفَحُ، فهل إذا انتَقَمَ الإِنسانُ لِنَفسِهِ صَارَ حَراماً؟
ثالثاً: «من المُتَكَلِّمُ؟»:
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي قالَ: «وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
كانَ مَرَّةً في الصَّلاةِ، كما أخرجَ الشيخان وأحمد وغيرهم، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كُنَّا يَوْماً نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ قَالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»
قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْداً كَثِيراً طَيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ.
فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «مَنْ الْمُتَكَلِّمُ؟»
قَالَ: أَنَا.
قَالَ: «رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكاً يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ».
فهذا الصَّحابِيُّ الجَليلُ فَعَلَ في الصَّلاةِ ما لم يَفعَلْهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فهل كانَ آثِماً في ذلكَ ومُبتَدِعاً في دِينِ الله تعالى؟
نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ:
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ ليلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ.
فَقَالَ عُمَرُ: والله إِنِّي أرى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ.
ثمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ.
فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِن الَّتِي تَقُومُونَ. يُريدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد فَعَلَ سيِّدُنا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ ما لم يَفعَلْهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بل قال: والله إِنِّي أرى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ. فهل أحَدٌ من الصَّحابَةِ أنكَرَ عليهِ؟ هل أحَدٌ من الصَّحابَةِ قالَ له: أنَفعَلُ أمراً ما فَعَلَهُ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
قَطعاً، ما أحَدٌ أنكَرَ على سيِّدِنا عُمَرَ فِعلَتَهُ هذهِ، بل حتَّى على مَقولَتِهِ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ.
وإذا قُلتَ اليومَ لأحَدٍ: هذهِ بِدعَةٌ حَسَنَةٌ، تَقومُ الدُّنيا ولا تَقعُدُ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: الحَلالُ ما أحَلَّهُ اللهُ تعالى، ورسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، والحَرامُ ما حَرَّمَهُ اللهُ تعالى، ورسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وإنِّ ما تَرَكَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأصحابُهُ الكِرامُ رَضِيَ اللهُ عنهُم من أمورٍ، لا يُفيدُ تَحريمَ هذهِ الأمورِ، ما دَامَ أنَّ لها أَصلاً شَرعِيَّاً، بَل هذا يَكونُ مُندَرِجاً تحتَ قَولِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» رواه الإمام مسلم عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَجعَلُ الأجرَ لمن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فِي الْإِسْلَامِ، وخاصَّةً إذا كانَ لها أصلٌ في الشَّرعِ الشَّريفِ، بَل ويَجعَلُ أَجرَ مَن عَمِلَ بهذهِ السُّنَّةِ المستَحدَثَةِ المَضبوطَةِ بِضَوابِطِ الشَّرعِ الشَّريفِ في صَحيفَةِ مَن سَنَّ هذهِ السُّنَّةَ الحَسَنَةَ، ويَأتي بعضُ القَومِ يُخرِجونَهُ من المِلَّةِ، ويُبَدِّعونَهُ، ويُفَسِّقونَهُ، إذا لم يُكَفِّروهُ، فلمن نُصَدِّقُ؟
أيُّها الإخوة الكرام: التَّحريمُ لا يَكونُ إلا بِدَليلٍ، وإن تَرَكَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أمراً من الأمورِ، وكذلكَ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللهُ عنهُم، لا يُفيدُ التَّحريمَ، ولا البِدعَةَ المُحَرَّمَةَ شرعاً. هذا، والله تعالى أعلم.
أسألُ اللهَ تعالى أن يَجمَعَ شَملَ هذهِ الأمَّةِ على الكِتابِ والسُّنَّةِ. آمين.
** ** **
تاريخ المقال:
الخميس: 26/ شعبان/1434هـ الموافق: 4/تموز /2013م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
هل تسقط صلاة الجمعة عمن أكل الثوم أو البصل؟ أم تجب عليه ويكون آثماً بإيذائه للمسلمين بالرائحة الكريهة؟ ... المزيد
سؤال: هل هناك حرج شرعي من الاطلاع على هاتف الزوج الخاص به، حيث جعل له رقماً سرياً، وبإمكاني اختراق هذا الرقم؟ ... المزيد
سؤال: هل يجوز للمرأة أن تشترط على زوجها أثناء العقد أن لا يتزوَّج عليها؟ ... المزيد
سؤال: هل يجوز للمرأة المسلمة أن تعمل كسكرتيرة بسبب حاجتها المادية؟ ... المزيد
سؤال: ما حكم الشرع في حديث الرجل مع المرأة الأجنبية من غير ضرورة؟ ... المزيد
يقول الله تبارك وتعالى في حقِّ أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلا}. ويقول في حقِّ أهل النار: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا ... المزيد