مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
58 ـ فمن رغب عن سنتي فليس مني
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: نِعمَةُ العِبادَةِ نِعمَةٌ لا تُدانيها نِعمَةٌ، ولا تُوازيها مِنَّةٌ، كم هوَ الفارِقُ كبيرٌ بينَ من يَنشَغِلُ بِجَمعِ المالِ والعَمَلِ لما قَبلَ المَوتِ، وبينَ من يَنشَغِلُ بالطَّاعاتِ والعَمَلِ لما بعدَ المَوتِ.
وَمِمَّـا زَادَنـِي شَـرَفـاً وَتِـيهـاً *** وَكِدْتُ بِأَخْمُصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِك يَا عِبَادِي *** وَأَنْ صَـيَّرْت أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للعِبادِ منهَجاً، فكانَ أقوَمَ المناهِجِ وأقواها، وأفضَلَها عِندَ الله ولأهداها، وأعدَلَها في أداءِ الحُقوقِ وأكمَلَها، وهوَ أبينُ طُرُقِ التَّقَرُّبِ إلى الله تعالى وأقرَبُها.
ومهما جاءَ العَابِدُ بِمَشاقِّ التَّعَبُّداتِ، وأتى بِعَظائِمَ من الطَّاعاتِ، لا يُقَرِّبُهُ إلى الله زُلفى، كما تُقَرِّبُهُ السُّنَّةُ المُحَمَّدِيَّةُ التي سَنَّها رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الطَّاعاتِ والعِباداتِ.
«فمن رَغِبَ عن سُنَّي فليسَ منِّي»:
أيُّها الإخوة الكرام: من هذا المنهَجِ في العِباداتِ، ما رواه الإمام البخاري عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا.
فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.
قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَداً.
وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ.
وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَداً.
فَجَاءَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا والله إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لله وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
أرغبَةً عن سُنَّتي:
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا عُثمانُ بنُ مَظعونٍ عَشِقَ العِبادَةَ لا مَثيلَ لهُ، وكانَ ذلكَ على حِسابِ أهلِهِ، ونَفسِهِ، وضُيوفِهِ، لمَّا بَلَغَ ذلكَ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فعاتَبَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ خُوَيْلَةُ بِنْتُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السُّلَمِيَّةُ، وَكَانَتْ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ.
قَالَتْ: فَرَأَى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَذَاذَةَ هَيْئَتِهَا.
فَقَالَ لِي: «يَا عَائِشَةُ، مَا أَبَذَّ هَيْئَةَ خُوَيْلَةَ»
قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا، يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ، فَهِيَ كَمَنْ لَا زَوْجَ لَهَا، فَتَرَكَتْ نَفْسَهَا وَأَضَاعَتْهَا.
قَالَتْ: فَبَعَثَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَجَاءَهُ.
فَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ، أَرَغْبَةً عَنْ سُنَّتِي؟»
قَالَ: فَقَالَ: لَا والله يَا رَسُولَ الله، وَلَكِنْ سُنَّتَكَ أَطْلُبُ.
قَالَ: «فَإِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَاتَّقِ اللهَ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ».
يا لَيتَني قَبِلتُ رُخصَةَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: هذا الدِّينُ مَتينٌ، ولن يُشادَّ الدِّينَ أحَدٌ إلا غَلَبَهُ، لذلكَ على المُسلِمِ أن يُوغِلَ فيهِ بِرِفقٍ، فإنَّ المُنبَتَّ لا ظَهراً أَبقى، ولا أَرضاً قَطَعَ.
روى الإمام البخاري عن عَبْدَ الله بْن عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَقُولُ: والله لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ.
فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي.
قَالَ: «فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ»
قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: «فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ»
قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: «فَصُمْ يَوْماً وَأَفْطِرْ يَوْماً، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ».
فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ».
فَكَانَ عَبْدُ الله يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ: يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وفي رواية قال عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عنهُما: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:« أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟»
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَ: «فَلَا تَفْعَلْ، قُمْ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقَّاً، وَإِنَّكَ عَسَى أَنْ يَطُولَ بِكَ عُمُرٌ، وَإِنَّ مِنْ حَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَذَلِكَ الدَّهْرُ كُلُّهُ»
قَالَ: فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ.
فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ غَيْرَ ذَلِكَ.
قَالَ: «فَصُمْ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ».
قَالَ: فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ.
قُلْتُ: أُطِيقُ غَيْرَ ذَلِكَ.
قَالَ: «فَصُمْ صَوْمَ نَبِيِّ الله دَاوُدَ».
قُلْتُ: وَمَا صَوْمُ نَبِيِّ الله دَاوُدَ.
قَالَ: «نِصْفُ الدَّهْرِ».
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: سُئِلَ الحَسَنُ البَصرِيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ما بالُ أهلِ اللَّيلِ على وُجوهِهِمُ النَّورَ؟
قال: لأنَّهُم خَلَوا بِرَبِّهِم فألبَسَهُم من نورِهِ سُبحانَهُ وتعالى.
أيُّها الإخوة الكرام: ألزِموا أنفُسَكُمُ العِبادَةَ، وقارِنوا بينَ عِبادَتِكُم وعِبادَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللهُ عنهُم.
اللَّهُمَّ ألحِقنا بِهِم يا أرحَمَ الرَّاحِمينَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الاثنين: 21 /رمضان/1434هـ، الموافق: 29 /تموز / 2013م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
مِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ سَخَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ المَوْجُودَاتِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ صَلَّى ... المزيد
الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد
الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد
لَقَدِ رَحِمَ اللهُ تعالى هَذِهِ الأُمَّةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرَاً وَنَذِيرَاً، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ ... المزيد
فَعَلَى قَدْرِ التَّحَمُّلِ يَكُونُ الأَدَاءُ، وَبِحَسْبِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ المُهِمَّةُ، لِذَلِكَ عَلَّمَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِهِ العَظِيمِ مَا لَمْ يَكُنْ ... المزيد
وَجَاءَتْ تَارَةً بِمَدْحِ أَهْلِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾. وَقَالَ: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا ... المزيد