935ـ خطبة الجمعة: سلامة الصدر نعمة ربانية

935ـ خطبة الجمعة: سلامة الصدر نعمة ربانية

935ـ خطبة الجمعة: سلامة الصدر نعمة ربانية

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فَيَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَهَمِّ مَا يُمَيِّزُ الأُمَّةَ المُحَمَّدِيَّةَ، أَنَّهَا أُمَّةٌ مُتَوَادَّةٌ مُتَرَاحِمَةٌ مُتَكَاتِفَةٌ مُتَحَابَّةٌ، تَبْنِي أَفْرَادَهَا، وَتُقِيمُ مُجْتَمَعَاتِهَا عَلَى أُسُسِ التَّعَاوُنِ المُشْتَرَكِ، وَالتَّقْدِيرِ وَالاحْتِرَامِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا، وَتُؤَسِّسُهَا عَلَى قَوَاعِدِ الحُبِّ المُتَبَادَلِ، وَالتَّعَامُلِ الرَّفِيقِ، وَالسُّلُوكِ الرَّقِيقِ.

لَا مَكَانَ فِي المُجْتَمَعِ الإِسْلَامِيِّ لِلْأَثَرَةِ المَمْقُوتَةِ، بَلْ لِلْإِيثَارِ المَمْدُوحِ المُحْمُودِ الَّذِي يُقَوِّي أَوَاصِرَ المُجْتَمَعِ، وَلَا مَكَانَ لِلْأَنَانِيَّةِ البَغِيضَةِ، بَلِ الحُبُّ وَالوَفَاءُ لَهُمَا المَكَانَةُ السَّامِيَةُ العَالِيَةُ بَيْنَ أَفْرَادِ المُجْتَمَعِ، تَرَى قُلُوبَ أَفْرَادِ المُجْتَمَعِ مُفْعَمَةً بِالمَحَبَّةِ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا، أَلْسِنَتُهُمْ تَلْهَجُ بِذِكْرِ مَحَاسِنِ بَعْضِهِمْ، يَنْشُرُونَ حَسَنَاتِ بَعْضِهِمْ، وَيَدْفِنُونَ سَيِّئَاتِهِمْ وَعَوْرَاتِهِمْ بَعْدَ التَّنَاصُحِ، فَهُمْ عَلَى حَذَرٍ مِنَ الوُقُوعِ فِي أَعْرَاضِ بَعْضِهِمْ، لَا يَحْمِلُونَ حِقْدًا دَفِينًا فِي قُلُوبِهِمْ، وَلَا يَنْشُرُونَ الكَذِبَ المُبِينَ، لِأنَّ هَذا مَسْلَكُ أَهْلِ اللُّؤْمِ وَالوَضَاعَةِ، وَالخِسَّةِ وَقِلَّةِ المُرُوءَةِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَيْسَ أَرْوَحَ لِلْمَرْءِ، وَلَا أَطْرَدَ لِهُمُومِهِ، وَلَا أَقَرَّ لِعَيْنِهِ مِنْ أَنْ يَعِيشَ سَلِيمَ القَلْبِ، مُبَرَّأً مِنْ وَسَاوِسِ الضَّغِينَةِ، وَثَوَرَانِ الأَحْقَادِ، إِذَا رَأَى نِعْمَةً تَنْسَاقُ لِأَحَدٍ رَضِيَ بِهَا، وَأَحَسَّ فَضْلَ اللهِ فِيهَا، وَفَقْرَ عِبَادِهِ إِلَيْهَا، وَإِذَا رَأَى أَذًى يَلْحَقُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللهِ رَثَا لَهُ، وَرَجَا اللهَ أَنْ يُفَرِّجَ كَرْبَهُ وَيَغْفِرَ ذَنْبَهُ، وَبِذَلِكَ يَحْيَا المُسْلِمُ نَاصِعَ الصَّفْحَةِ، رَاضِيًا عَنِ اللهِ وَعَنِ الحَيَاةِ، مُسْتَرِيحَ النَّفْسِ مِنْ نَزَعَاتِ الحِقْدِ الأَعْمَى، ذَلِكَ أَنَّ فَسَادَ القَلْبِ بِالضَّغَائِنِ دَاءٌ عُضَالٌ، وَمَا أَسْرَعَ أَنْ يَتَسَرَّبَ الإِيمَانُ مِنَ القَلْبِ المَغْشُوشِ، كَمَا يَتَسَرَّبُ السَّائِلُ مِنَ الإِنَاءِ المَثْلُومِ.

إِنَّ الشَّيْطَانَ رُبَّمَا عَجَزَ أَنْ يَجْعَلَ مِنَ الرَّجُلِ العَاقِلِ عَابِدَ صَنَمٍ، وَلَكِنَّهُ ـ وَهُوَ الحَرِيصُ عَلَى إِغْوَاءِ الإِنْسَانِ وَإِيرَادِهِ المَهَالِكَ ـ لَنْ يَعْجِزَ عَنِ المُبَاعَدَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، حَتَّى يَجْهَلَ حُقُوقَهُ أَشَدَّ مِمَّا يَجْهَلُهَا الوَثَنِيُّ المُخَرِّفُ، وَهُوَ يَحْتَالُ لِذَلِكَ بِإِيقَادِ نَارِ العَدَاوَةِ في القُلُوبِ، فَإِذَا اشْتَعَلَتِ اسْتَمْتَعَ الشَّيْطَانُ بِرُؤْيَتِهَا وَهِيَ تُحْرِقُ حَاضِرَ النَّاسِ وَمُسْتَقْبَلَهُمْ، وَتَلْتَهِمُ عَلَائِقَهُمْ وَفَضَائِلَهُمْ، ذَلِكَ أَنَّ الشَرَّ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الأَفْئِدَةِ (الحَاقِدَةِ) تَنَافَرَ وُدُّهَا وَارْتَدَّ النَّاسُ إلى حَالٍ مِنَ القَسْوَةِ وَالعِنَادِ، يَقْطَعُونَ فِيهَا مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَيُفْسِدُونَ في الأَرْضِ.

إِنَّ الحِقْدَ هُوَ المَصْدَرُ الدَّفِينُ لِكَثِيرٍ مِنَ الرَّذَائِلِ التي رَهَّبَ مِنْهَا الإِسْلَامُ، فَالافْتِرَاءُ عَلَى الأَبْرِيَاءِ جَرِيمَةٌ يَدْفَعُ إِلَيْهَا الكُرْهُ الشَّدِيدُ (الحِقْدُ)، وَقَدْ عَدَّهَا الإِسْلَامُ مِنْ أَقْبَحِ الزُّورِ، أَمَّا الغِيبَةُ فَهِيَ مُتَنَفَّسُ حِقْدٍ مَكْظُومٍ، وَصَدْرٍ فَقِيرٍ إلى الرَّحْمَةِ وَالصَّفَاءِ، وَمِنْ لَوَازِمِ الحِقْدِ سُوءُ الظَّنِّ وَتَتَبُّعُ العَوْرَاتِ، وَاللَّمْزُ، وَتَعْيِيرُ النَّاسِ بِعَاهَاتِهِمْ، أَو خَصَائِصِهِمُ البَدَنِيَّةِ أَو النَّفْسِيَّةِ، وَقَدْ كَرِهَ الإِسْلَامُ ذَلِكَ كُلَّهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً.

وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

لَا يَحْمِلُ الْحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ   ***   وَلَا يَنَالُ الْعُلَا مَنْ طَبْعُهُ الْغَضَبُ

«لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا»:

يَا عِبَادَ اللهِ: الحُكَمَاءُ مِنَ النَّاسِ يَنْهَوْنَ أَنْ تُرْفَعَ لَهُمْ أَحَادِيثُ النَّاسِ لِتَسْلَمَ صُدُورُهُمْ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الَّذِي رَوَاهُ الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَدْنَى دَرَجَاتِ الأُخُوَّةِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ سَلَامَةُ الصَّدْرِ، فَلْنَتَّقِ اللهَ تعالى في الآخَرِينَ، وَلْنَحْذَرْ أَنْ نَكُونَ سَبَبًا في إِيغَارِ الصُّدُورِ بَيْنَهُمْ.

إِنَّ سَلَامَةَ الصَّدْرِ وَنَقَاءَهُ مِفْتَاحُ المُجْتَمَعِ المُتَمَاسِكِ، وَمِفْتَاحُ الأُسْرَةِ المُتَمَاسِكَةِ، لَا تَهُزُّهَا العَوَاصِفُ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الفِتَنُ، وَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الأُسْرَةِ إِذَا كَانَتْ تَسُودُهَا الدَّسَائِسُ وَالفِتَنُ، وَتَمْتَلِئُ قُلُوبُ أَفْرَادِهَا غِشًّا، وَحَسَدًا، وَأَمْرَاضًا؟

يَا عِبَادَ اللهِ: سَلَامَةُ الصَّدْرِ نِعْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، وَمِنْحَةٌ إِلَهِيَّةٌ، وَسَبَبٌ في قَبُولِ الأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ وَعَكْسُ ذَلِكَ خَسَارَةٌ فَادِحَةٌ.

رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ، يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا، أَوِ ارْكُوا (يَعْنِي: أَخِّرُوا) هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا».

لِنَنْظُرْ كَمْ يُضَيِّعُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الخَيْرِ مَنْ يَحْمِلُ في قَلْبِهِ الأَحْقَادَ وَالضَّغَائِنَ.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى لِي وَلَكُمْ سَلَامَةَ الصُّدُورِ. آمين.

أَقُولُ هَذَا القَوْلَ وَكُلٌّ مِنَّا يَسْتَغْفِرُ اللهَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 26/ شوال /1446هـ، الموافق: 25/ نيسان / 2025م

 2025-04-24
 1357
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

28-08-2025 1351 مشاهدة
954ـ خطبة الجمعة: يوم المولد يوم مولد المجد

فِي يَوْمِ المَوْلِدِ الشَّرِيفِ وُلِدَ يَوْمُ المَجْدِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، فِي يَوْمِ المَوْلِدِ الـشَّرِيفِ جَاءَتِ البِشَارَاتُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، لِتَكُونَ أُمَّةً مَتْبُوعَةً لَا تَابِعَةً، لِتَكُونَ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. ... المزيد

 28-08-2025
 
 1351
22-08-2025 774 مشاهدة
953ـ خطبة الجمعة: ظاهرة الكذب ضيعت الحقوق

الظَّوَاهِرُ القَبِيحَةُ فِي المُجْتَمَعِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ أَقْبَحَهَا وَأَخْطَرَهَا ظَاهِرَةُ الكَذِبِ، هَذِهِ الظَّاهِرَةُ الَّتِي قَالَ عَنْهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ ... المزيد

 22-08-2025
 
 774
14-08-2025 766 مشاهدة
952ـ خطبة الجمعة: كمال شخصية الداعي

مَنْ حُجِبَ عَنِ العِلْمِ عَذَّبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى جَهْلِهِ، وَأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ العِلْمُ فَأَدْبَرَ عَنْهُ، وَسَاقَ اللهُ إِلَيْهِ الهُدَى فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ ... المزيد

 14-08-2025
 
 766
08-08-2025 941 مشاهدة
951ـ خطبة الجمعة: العدل من صفات أهل الكمال

العَدْلُ وَالْإِنصَافِ عَزِيزَانِ بَيْنَ النَّاسِ، لِأَنَّ طَبِيعَةَ الإِنسَانِ أَنَّهُ مَيَّالٌ لِلظُّلْمِ وَمُحِبٌّ لِلْجَهْلِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾. إِلَّا مَنْ خَالَفَ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَشَيْطَانَهُ، وَاتَّبَعَ ... المزيد

 08-08-2025
 
 941
01-08-2025 1417 مشاهدة
950ـ خطبة الجمعة: حتى نفوز بطوبى «فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»

حَتَّى نَفُوزَ بِطُوبَى لَا بُدَّ أَنْ نَسْمَعَ وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى ... المزيد

 01-08-2025
 
 1417
24-07-2025 1413 مشاهدة
949ـ خطبة الجمعة: أسباب الأمن والأمان

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يُصْبِحُوا آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، مُطْمَئِنِّينَ عَلَى أَعْرَاضِهِمْ، لَا يَخَافُونَ ظُلْمَ ظَالِمٍ، وَلَا جَوْرَ جَائِرٍ، وَلَا خِيَانَةَ خَائِنٍ، وَقَدْ أَشَارَ سَيِّدُنَا ... المزيد

 24-07-2025
 
 1413

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5706
المقالات 3245
المكتبة الصوتية 4881
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 426825446
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :