936ـ خطبة الجمعة: حدد همتك وغايتك
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فَيَا عِبَادَ اللهِ: مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ في هَذَا الوُجُودِ لَهُ أُمْنِيَةٌ يَرْجُو نَوَالَهَا، وَيُخَطِّطُ لِتَحْقِيقِهَا، وَيُعِدُّ وَيُرَتِّبُ لِلْحُصُولِ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الآمَالُ وَالأَمَانِيُّ تَخْتَلِفُ مِنْ شَخْصٍ لِآخَرَ، وَتَخْتَلِفُ بَيْنَ النَّاسِ بِحَسَبِ عُلُوِّ هِمَمِهِمْ، وَرِفْعَةِ مَقَاصِدِهِمْ، فَمَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ عَالِيَةً وَجَدْتَ أَمَانِيَهُ عَالِيَةً وَغَالِيَةً وَعَزِيزَةً وَرَفِيعَةً، وَمَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ هَابِطَةً وَجَدْتَ أَمَانِيَهُ هَابِطَةً، وَرَحِمَ اللهُ تعالى القَائِلَ:
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا *** تَعِبَتْ في مُرَادِهَا الأَجْسَامُ
هِمَمُنَا وَغَايَاتُنَا وَهِمَمُهُمْ وَغَايَاتُهُمْ:
يَا عِبَادَ اللهِ: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَجْعَلَ مُقَارَنَةً بَيْنَ هِمَمِنَا وَغَايَاتِنَا اليَوْمَ وَهِمَمِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَغَايَاتِهِمْ، لَوَجَدْنَا الفَارِقَ الكَبِيرَ بَيْنَ هِمَمِنَا وَغَايَاتِنَا وَبَيْنَ هِمَمِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَغَايَاتِهِمْ.
هِمَمٌ وَغَايَاتٌ هَابِطَةٌ، وَاحِدٌ هِمَّتُهُ وَغَايَتُهُ أَرْضًا، وَالآخَرُ سَيَّارَةً، وَالآخَرُ مَحَلًّا أَوْ بَيْتًا، وَالآخَرُ زَوْجَةً حَسْنَاءَ، وَالآخَرُ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، وَلَا عَيْبَ في ذَلِكَ وَلَا عَارَ مَا لَمْ يَسْلُكْ في سَبِيلِ ذَلِكَ إِثْمًا أَوْ حَرَامًا.
يَا عِبَادَ اللهِ: المَعِيبُ وَالعَجِيبُ أَنْ تَرَى الهِمَّةَ وَالأُمْنِيَّةَ مَحْصُورَةً عِنْدَ هَذَا الحَدِّ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَحُظُوظِهَا الفَانِيَةِ الَّتِي زُيِّنَتْ لِلنَّاظِرِينَ إِلَيْهَا ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْـمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْـمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْـمَآبِ﴾. المَعِيبُ وَالعَجِيبُ أَنْ يَكُونَ هَمُّ الوَاحِدِ وَأُمْنِيَّتُهُ مَحْصُورَةً في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَظٌّ وَلَا نَصِيبٌ في الآخِرَةِ.
يَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ تَعَالَى، أَمَّا سَلَفُنَا الصَّالِحُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فَقَدْ كَانُوا على نَقِيضِ ذَلِكَ تَمَامًا، لَقَدْ كَانُوا يُمْنَحُونَ الفُرَصَ الكَثِيرَةَ لِيَسْأَلَ أَحَدُهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ، وَإِذَا دَعَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ أُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ، وَإِذَا وَعَدَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا بِمَوْعِدٍ تَحَقَّقَ وَعْدُهُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى.
لَقَدْ كَانَ بِوُسْعِ الوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ مِنْ زَخَارِفِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مَا سَأَلَ أَحَدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هَذَا الحُطَامَ، حُطَامَ الدُّنْيَا، إِلَّا عَدَدٌ قَلِيلٌ مِنَ الأَعْرَابِ، أَوْ مِمَّنْ دَخَلَ الإِسْلَامَ ابْتِدَاءً، أَوْ عَنْ حَاجَةٍ مَاسَّةٍ.
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانُوا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ إِذَا أُتِيحَتْ لَهُمُ الفُرْصَةُ فِي السُّؤَالِ سَأَلُوهُ، وَتَمَنَّوْا، وَلَكِنْ مَاذَا كَانُوا يَسْأَلُونَ؟ وَمَاذَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ؟ وَمَاذَا كَانُوا يَطْلُبُونَ؟
أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْـجَنَّةِ:
يَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَهُ وَيَتَمَنَّى عَلَيْهِ مَا يُرِيدُ.
رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ».
فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ: «أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ».
قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ.
قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ عُلُوَّ الهِمَّةِ، وَسُمُوَّ الطَلَبِ، لَا يُحْسِنُهُ إِلَّا أَكَابِرُ النَّاسِ الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى التَّوْفِيقَ حَلِيفَهُمْ.
رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ».
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا.
قَالَ: «نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ». هِمَّةٌ تَنْطَحُ الثُّرَيَّا في عُلُوِّهَا، وَعَزْمٌ يَدُكُّ الجِبَالَ دَكًّا.
يَا عِبَادَ اللهِ: لِيُصَنِّفْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ: هُوَ مِنْ أَيِّ الصِّنْفَيْنِ في هَمِّهِ وَهِمَّتِهِ وَطَلَبِهِ، مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُمُوِّ الهِمَّةِ وَعُلُوِّ الطَّلَبِ، وَاجْعَلْ رِضَاكَ مَقْصُودَنَا وَهَمَّنَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.
أَقُولُ هَذَا القَوْلَ وَكُلٌّ مِنَّا يَسْتَغْفِرُ اللهَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 4/ ذو القعدة /1446هـ، الموافق: 2/ أيار / 2025م
الدُّنْيَا لِلْبَشَرِ لَيْسَتْ بِدَارِ مَقَرٍّ، وَلَا بَقَاءٍ وَلَا خُلُودٍ، وَهُمْ عَمَّا قَلِيلٍ مِنْهَا ظَاعِنُونَ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَيَّامٌ وَعَنْهَا رَاحِلُونَ، ثُمَّ هُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ وَاقِفُونَ مُخْتَصِمُونَ وَمُحَاسَبُونَ، ... المزيد
مِنْ أَهَمِّ مَا يُمَيِّزُ الأُمَّةَ المُحَمَّدِيَّةَ، أَنَّهَا أُمَّةٌ مُتَوَادَّةٌ مُتَرَاحِمَةٌ مُتَكَاتِفَةٌ مُتَحَابَّةٌ، تَبْنِي أَفْرَادَهَا، وَتُقِيمُ مُجْتَمَعَاتِهَا عَلَى أُسُسِ التَّعَاوُنِ المُشْتَرَكِ، وَالتَّقْدِيرِ وَالاحْتِرَامِ ... المزيد
لَقَدْ وَعَدَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَوَعْدُهُ تَعَالَى لَا يُخْلَفُ، بَلْ أَوْضَحَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ أَنَّهُ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ ... المزيد
مِنَ المَعْلُومِ عِنْدَ كُلِّ إِنْسَانٍ مُسْلِمٍ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعَدَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْصُرَ هَذَا الدِّينَ، وَأَنْ يُمَكِّنَ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ... المزيد
أَحْوَالٌ عَصِيبَةٌ، وَظُرُوفٌ رَهِيبَةٌ تُحِيطُ بِأَهْلِ بِلَادِ الشَّامِ في هَذِهِ الأَيَّامِ، نَرَى صُوَرًا مُحْزِنَةً، أُمَّةٌ في مَجْمُوعِهَا كَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، أُمَّةٌ قَالَ اللهُ تعالى فِيهَا: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ... المزيد
الإنْسَانُ السَّوِيُّ مَجْبُولٌ وَمَفْطُورٌ مِنْ أَصْلِ خَلْقِهِ عَلَى الحُبِّ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إِنْسَانٍ سَوِيٍّ عَاقِلٍ بِدُونِ حُبٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الحُبُّ مُدَنَّسًا أَمْ مُقَدَّسًا، فَالمُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ... المزيد