415ـ خطبة الجمعة: أتريدون أن يفرج الله عنكم؟

415ـ خطبة الجمعة: أتريدون أن يفرج الله عنكم؟

 

 415ـ خطبة الجمعة: أتريدون أن يفرج الله عنكم؟

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيَا عِبَادَ اللهِ، الإنسَانُ المُؤمِنُ فِي هَذِهِ الحَياةِ الدُّنيَا لا يَسلَمُ مِنَ الهُمُومِ مَهمَا بَلَغَ مِنَ العِلْمِ والتَّقوَى والصَّلاحِ، بَل رُبَّمَا عَلى العَكسِ مِن ذَلِكَ، فَكُلَّمَا عَظُمَ إِيمَانُهُ اشتَدَّ بَلاؤُهُ، رَوَى الإمَامُ الترمذي عنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟

قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».

فَوَائِدُ هَذِهِ الهُمُومِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، هّذِهِ الهُمُومُ التِي تُلازِمُ الإنسَانَ المُؤمِنَ في حَيَاتِهِ الدُّنيَا للهِ عزَّ وجلَّ فِيهَا حِكَمٌ:

أولاً: التَّعَرُّفُ على حَقِيقَةِ هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا:

يَا عِبَادَ اللهِ، هُمُومُ هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا تُعَرِّفُ العَبدَ المُؤمِنَ على حَقِيقَةِ هذهِ الحَيَاةِ الفَانِيَةِ، ومَتَاعِهَا القَلِيلِ، فما من لَذَّةٍ مِنهَا إلا وفِيهَا كَدَرٌ، ولا تَصْفُو لأحَدٍ مَهمَا كَانَ، إنْ أَضْحَكَتْ قَلِيلاً أَبْكَتْ كَثِيرَاً، وإنْ أَعْطَتْ يَسِيرَاً مَنَعَتْ كَثِيرَاً، وإنْ سَرَّتْ يَومَاً سَاءَتْ دَهْرَاً، وإنْ مَتَّعَتْ قَلِيلاً مَنَعَتْ كَثِيرَاً، قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

ثانياً: الدُّنيَا سِجْنُ المُؤمِنِ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الهُمُومُ التي تُلازِمُ الإنسَانَ المُؤمِنَ في حَيَاتِهِ الدُّنيَا تُعَرِّفُهُ صِدْقَ قَولِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. فإذا كَانَتِ الدُّنيَا سِجْنَ المُؤمِنِ، فالآخِرَةُ جَنَّتُهُ، وإذا كَانَتِ الدُّنيَا جَنَّةَ الكَافِرِ، فالآخِرَةُ سِجْنُهُ.

يُروَى أنَّ ابنَ حَجَرٍ العَسقلانيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ: خَرَجَ يَوماً بِأُبَّهَتِهِ ـ وَكَانَ رَئِيسَ القُضَاةِ بِمِصرَ ـ فَإِذَا بِرَجُلٍ يَهُودِيٍّ، فِي حَالَةٍ رَثَّةٍ.

فَقَالَ اليَهُودِيُّ: قِفْ.

فَوَقَفَ ابنُ حَجَرٍ.

فَقَالَ لَهُ: كَيفَ تُفَسِّرُ قَولَ رَسُولِكُم: «الدُنْيَا سِجْنُ الْـمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»، وهَا أَنتَ تَرانِي فِي حَالَةٍ رَثَّةٍ وَأَنَا كَافِرٌ، وَأَنتَ فِي نَعِيمٍ وَأُبَّهَةٍ مَعَ أَنَّكَ مُؤمِنٌ؟

فَقَالَ ابنُ حَجَرٍ: أَنتَ مَعَ تَعَاسَتِكَ وَبُؤسِكَ تُعَدُّ فِي جَنَّةٍ، لِمَا يَنتَظِرُكَ فِي الآخِرَةِ مِن عَذَابٍ أَلِيمٍ ـ إِنْ مِتَّ كَافِراً ـ. وَأَنَا مَعَ هَذِهِ الأُبَّهَةِ ـ إِنْ أَدخَلَنِي اللهُ الجَنَّةَ ـ فَهَذَا النَّعِيمُ الدُّنيَوِيُّ يُعَدُّ سِجنَاً بِالُمقَارَنَةِ مَعَ النَّعِيمِ الَّذِي يَنتَظِرُنِي فِي الجَنَّاتِ.

فَقَالَ اليَهُودِيُّ: أَكَذَلِكَ؟

قَالَ: نَعَم.

فَقَالَ: أَشهَدُ أَن لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ.

ثالثاً: مَوْتُ المُؤمِنِ رَاحَةٌ لَهُ:

يَا عِبَادَ اللهِ، الهُمُومُ التي تُلازِمُ الإنسَانَ المُؤمِنَ في حَيَاتِهِ الدُّنيَا تُعَرِّفُهُ أنَّ المَوْتَ رَاحَةٌ لَهُ من نَصَبِهَا وأَذَاهَا وشَقَائِهَا وعَنَائِهَا، لذلكَ يُحِبُّ لِقَاءَ اللهِ تعالى.

روى الشيخان عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ.

فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟

فَقَالَ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ».

أَتُرِيدُونَ أن يُفَرِّجَ اللهُ عَنكُم؟

يَا عِبَادَ اللهِ، يَا مَن تَعِيشُونَ هذهِ الأَزمَةَ القَاسِيَةَ، أَتُحِبُّونَ أن يُفَرِّجَ اللهُ عَنكُم مَا أَهَمَّكُم وأَكرَبَكُم وأَغَمَّكُم؟ أَتُرِيدُونَ أن يُبَارِكَ اللهُ لَكُم فِيمَا بَقِيَ من أَموَالِكُم؟ أَتُرِيدُونَ أن يُعطِيَكُم رَبُّنَا عزَّ وجلَّ خَلَفَاً عَاجِلاً، وأَجْرَاً آجِلاً؟

إنْ أَرَدتُم ذلكَ فَاسْمَعُوا قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه الشيخان عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.

يَا أَصحَابَ النِّعمَةِ، يَا أَصحَابَ الأَموَالِ، يَا أَصحَابَ البُيُوتِ، يَا أَصحَابَ المَطَاعِمِ، يَا أَصحَابَ المَلابِسِ، يَا أَصحَابَ السَّيَّارَاتِ، يَا أَصحَابَ مَحَطَّاتِ الوَقُودِ، يَا أَيُّهَا الأَطِبَّاءُ، يَا أَصحَابَ المَخَابِرِ، اِرحَمُوا تُرحَمُوا، فَرِّجُوا الكُرُوبَ عَن إِخوَانِكُم، يُفَرِّجِ اللهُ كُرُوبَكُم وهُمُومَكُم، ويُبَارِكْ لَكُم فِيمَا آتَاكُم.

خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ، أَصْلُ الحَيَاةِ الدُّنيَا تَعَبٌ وضَنَىً، سُرُوُهَا أَمْرٌ طَارِئٌ، وفَرَحُهَا شَيْءٌ نَادِرٌ، مَا رَضِيَهَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ لأولِيَائِهِ وأَصفِيَائِهِ مَقَرَّاً، فلا تَأْسَوْا على مَا فَاتَكُم، ولا تَفرَحُوا بِمَا آتَاكُم، واحْمَدَوا اللهَ عزَّ وجلَّ على سَائِرِ الأَحوَالِ، فَلَقَد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إذا أَتَاهُ مَا يَسُرُّهُ قَالَ: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ» وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ: «الْحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» رواه الحاكم وابن ماجه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.

اللَّهُمَّ اجعَلْنَا من الحَامِدِينَ الشَّاكِرِينَ على سَائِرِ الأَحوَالِ. آمين.

أقُولُ هَذا القَولَ، وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم، فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 27/صفر /1435هـ، الموافق: 19/كانون الأول / 2014م

 2014-12-19
 4529
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

17-05-2024 93 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 93
10-05-2024 310 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 310
02-05-2024 558 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 558
26-04-2024 509 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 509
19-04-2024 810 مشاهدة
910ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (1)

أَتَوَجَّهُ إلى السَّادَةِ حُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لِأَقُولَ لَهُمْ: هَنيئًا لَكُمْ يَا مَنْ لَبَّيْتُمْ أَمْرَ اللهِ تعالى القَائِلِ: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ ... المزيد

 19-04-2024
 
 810
12-04-2024 1532 مشاهدة
909ـ خطبة الجمعة: تعزية لمن أصيب بدينه

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المَصَائِبِ مُصِيبَةَ الدِّينِ، لِأَنَّهُ مَهْمَا عَظُمَتْ مَصَائِبُ الدُّنْيَا فَسَوْفَ تَنْقَضِي، وَرُبَّمَا يُجْبَرُ صَاحِبُهَا وَيُعَوِّضُ مَا فَاتَهُ، أَمَّا مُصِيبَةُ الدِّينِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِسَعَادَةِ العَبْدِ ... المزيد

 12-04-2024
 
 1532

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3165
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414913419
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :