102ـ كلمة شهر شعبان 1436هـ: تدبروا
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: مَا وُجِدَ شَرٌّ في الدُّنيَا ولا في الآخِرَةِ إلا بِسَبَبِ الذُّنُوبِ والمَعَاصِي، فَبِسَبَبِ المَعْصِيَةِ خَرَجَ آدَمُ من الجَنَّةِ، وبِسَبَبِ المَعْصِيَةِ طُرِدَ إِبْلِيسُ من مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وبِسَبَبِ المَعْصِيَةِ أَغْرَقَ اللهُ تعالى قَوْمَ سَيِّدِنَا نُوحٍ عَلَيهِ السَّلامُ، وبِسَبَبِ المَعَاصِي سَلَّطَ اللهُ تعالى الرِّيحَ العَقِيمَ على قَوْمِ عَادٍ، وبِسَبَبِ المَعَاصِي أَرْسَلَ اللهُ تعالى الصَّيْحَةَ على قَوْمِ ثَمُودَ، وبِسَبَبِ المَعْصِيَةِ جَعَلَ اللهُ أَرْضَ قَوْمِ لُوطٍ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، حَتَّى سَمِعَتِ المَلائِكَةُ نُبَاحَ كِلابِهِم، وبِسَبَبِ المَعَاصِي أَرْسَلَ اللهُ تعالى على قَوْمِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيهِ السَّلامُ سُحُبَ العَذَابِ كالظُّلَلِ.
الذُّنُوبُ والمَعَاصِي مَا حَلَّتْ في دِيَارٍ إلا أَهْلَكَتْهَا، وكَانَتْ سَبَبَاً في دَمَارِهَا، ومَا حَلَّتْ في قُلُوبٍ إلا أَعْمَتْهَا وطَمَسَتْ بَصِيرَتَهَا، ومَا حَلَّتْ في أُمَّةٍ إلا أَذَلَّتْهَا، وما اسْتَقَرَّتْ في نُفُوسٍ إلا أَذَلَّتْهَا وأَفْسَدَتْهَا.
أيُّها الإخوة الكرام: الذُّنُوبُ والمَعَاصِي تَضُرُّ في الحَالِ والمَآلِ، وضَرَرُهَا في القَلْبِ كَضَرَرِ السُّمُومِ في الأَجْسَادِ، ولَهَا آثَارٌ على الفَرْدِ والأُمَّةِ، وبِسَبَبِهَا تَزُولُ النِّعَمُ، وتَحُلُّ النِّقَمُ.
تَدَبَّرُوا كِتَابَ اللهِ عزَّ وجلَّ:
أيُّها الإخوة الكرام: يَا مَن تَعِيشُونَ في هذا البَلَدِ الحَبِيبِ، وهذهِ الأَزْمَةِ القَاسِيَةِ التي كَثُرَ فِيهَا سَفْكُ الدِّمَاءِ، وسَلْبُ الأَمْوَالِ، وتَخْرِيبُ البُيُوتِ، وتَرْمِيلُ النِّسَاءِ، وتَيْتِيمُ الأَطْفَالِ، تَدَبَّرُوا كِتَابَ اللهِ عزَّ وجلَّ لقد بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ أَسْبَابَ مَا حَلَّ بِنَا، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾.
وقَالَ تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرَاً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
وقَالَ تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدَاً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.
وقَالَ تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرَاً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابَاً أَلِيمَاً﴾.
تَدَبَّرُوا حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: يَا مَن تَعِيشُونَ هذهِ الأَزْمَةَ القَاسِيَةَ، تَدَبَّرُوا حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، الصَّادِقِ المَصْدُوقِ، لقد تَرَكَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ على المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزْيغُ عَنهَا إلا هَالِكٌ، لقد بَيَّنَ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَسْبَابَ مَا حَلَّ بِنَا.
روى الإمام أحمد عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ».
وروى الحاكم وابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ باللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِم الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِن السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّاً مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ».
وروى البيهقي عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلَاً يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لا يَضُرُّ إلا نَفْسَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ : بَلَى واللهِ، حَتَّى الحَبَارَى لَتَمُوتُ في وِكْرِهَا هُزَالَاً لِظُلْمِ الظَّالِمِ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: يَقُولُ العَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لا يَنْزِلُ بَلاءٌ إلا بِذَنْبٍ، وَلَمْ يُكْشَفْ إلا بِتَوْبَةٍ.
ويَقُولُ ابْنُ المُبَارَكِ:
رَأَيْتُ الـذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ *** وَيُـتْـبِعُـهَا الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الـذُّنُوبِ حَيَاةُ القُلُوبِ *** وَخَيْرٌ لِنَـفْسِكَ عِصْيَانُهَا
وَهَلْ بَـدَّلَ الـدِّينَ إلا المُـلُوكُ *** وَأَحْبَارُ سُـوءٍ وَرُهْـبَـانُهَا
وَبَـاعُوا الـنُّفُوسَ فَلَمْ يَرْبَحُوا *** وفي الـبَـيْعِ لَمْ يَـغْلُ أَثْمَانُهَا
لَقَد وَقَـعَ الـقَـوْمُ في جِـيـفَـةٍ *** يَـبِـيـنُ لِذِي العَقْلِ إِنْتَانُهَا
والأَحْسَنُ من هذا، قَوْلُ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: الذُّنُوبُ والمَعَاصِي تَمْحَقُ بَرَكَةَ العُمُرِ، وبَرَكَةَ الرِّزْقِ والعِلْمِ، والاسْتِقَامَةُ تَجْلِبُ البَرَكَةَ على العِبَادِ والبِلادِ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾. وقَالَ تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقَاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابَاً صَعَدَاً﴾.
ويَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما: إِنَّ للحَسَنَةِ ضِيَاءً في الوَجْهِ، وَنُورَاً في القَلْبِ، وَسَعَةً في الرِّزْقِ، وَقُوَّةً في البَدَنِ، وَمَحَبَّةً في قُلُوبِ الخَلْقِ، وإنَّ للسَّيِّئَةِ سَوَادَاً في الوَجْهِ، وَظُلْمَةً في القَبْرِ والقَلْبِ، وَوَهَنَاً في البَدَنِ، وَنَقْصَاً في الرِّزْقِ، وَبُغْضَةً في قُلُوبِ الخَلْقِ. ﴿فَهَلْ مْنْ مُدَّكِرٍ﴾.
اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا بِتَرْكِ المَعَاصِي مَا أَبْقَيْتَنَا. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الثلاثاء: 1/ شعبان /1435هـ، الموافق: 19/أيار/ 2015م
أخوكم أحمد النعسان
يرجوكم دعوة صالحة
اضافة تعليق |
هَا نَحْنُ في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، شَهْرِ المَوْلِدِ الشَّرِيفِ، حَيْثُ يَحْتَفِلُ المُسْلِمُونَ في بُيُوتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفي بُيُوتِهِمْ، وَيَجْمَعُونَ النَّاسَ عَلَى الإِنْشَادِ وَالمَدِيحِ، وَتَوْزِيعِ الحَلْوَى، وَجَعْلِ المَوَائِدِ؛ ... المزيد
مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا فَلَنْ يَحْزَنَ، خُلِقَتِ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا مَمْزُوجٌ بِالأَكْدَارِ، فَكَيْفَ بِأَكْدَارِهَا؟! قَالَ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ ... المزيد
الرِّفْقُ وَاللِّينُ مَا وُجِدَا في شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا فُقِدَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، فَاللِّينُ في الكَلَامِ وَالْتِزَامُ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾. وَقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا ... المزيد
هَذِهِ أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ قَدْ أَقْبَلَتْ، فَاسْمَعُوا إلى هَدْيِ حَبِيبِكُمُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى ... المزيد
إِنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ مَحْدُودَةُ الآجَالِ، وَأَيَّامَهُ وَلَيَالِيَهُ تَمْضِي سَرِيعَةً إلى الزَّوَالِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا ... المزيد
هَا هُوَ يَوْمُ العِيدِ قَدْ جَاءَ بَعْدَ طَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، بَعْدَ رُكْنٍ عَظِيمٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، كَيْفَ لَا يَأْتِي يَوْمُ عِيدٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ شَهْرٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَتِنَا؟ ... المزيد