الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فنتابع الحديث عن موضوع الخطبة، عرفنا من خلال الدرسين الماضيين بأن المرأة هي المخطوبة، والزوج هو الخاطب، وفي الغالب الأعم المطلوب يكون أغلى من الطالب، فالإسلام كرَّم المرأة أيَّما تكريم، فجعلها مخطوبة ولم يجعلها خاطبة، للحياء الذي كساها الله عز وجل إياه، وللحفاظ على حشمتها ووقارها ولعدم اختلاطها بالرجال وعدم تبرُّجها، لأن المرأة المسلمة سمعت قول الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}، فالمرأة في ديننا مستقرَّة في بيتها، وهذا تشريع من الله قال فيه مولانا سبحانه وتعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}؟
لكن قال العلماء: يستحب لولي الفتاة إذا رأى بنته أو أخته قد بلغت سن النساء، ولم يُطرَق بابُه من أجلها، فيستحب في حقه أن يبحث عن خاطب لابنته أو محارمه، وذلك تأسياً بسيدنا شعيب عليه السلام، عندما توسَّم بسيدنا موسى عليه السلام الخير، فقال له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ}، وهذا مخالف للمبدأ الذي يسير عليه كثير من الناس وهو: المبذول رخيص! المبذول ليس رخيصاً، لأن الشيء الغالي إذا بُذل عند غير أهله يكون رخيصاً، أما عندما تعلم على من تعرض ما عندك فأنت تكون موفَّقاً وسعيداً.
وسيدنا عمر رضي الله عنه عندما تأيَّمت ابنته حفصة رضي الله عنها عرضها على سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، فسكت سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، فعرضها على سيدنا عثمان رضي الله عنه، لأن سيدنا عثمان رضي الله عنه كانت زوجته الأولى بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي وافق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوافق عليه سيدنا عمر رضي الله عنه، فاعتذر سيدنا عثمان رضي الله عنه.
فوجد سيدنا عمر رضي الله عنه في نفسه شيئاً، فذهب إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، عرضت ابنتي على أبي بكر فسكت، وعرضتها على عثمان فاعتذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتزوج حفصةَ من هو ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة). فتزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها، وزوَّج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته لسيدنا عثمان رضي الله عنه. قال سيدنا عمر رضي الله عنه: فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة؟ قال: نعم، قال: لم يمنعني أن أرجع إليك إلا أنني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها قبلتها [رواه أبو يعلى وغيره].
فالمرأة في ديننا مخطوبة وليست خاطبة، ولكن في زماننا هذا بسبب تفكك الأسر وضعف الصلة بين الأرحام والجيران، لم يعد الرجل يعرف ما إذا كان في هذا البيت بنات أم لا، فما المانع من أجل عصمة بناتك وعصمة شبابنا أن تعرض ابنتك على صاحب الدين والخُلُق؟
إذاً الخطبة هي الخطوة الأولى في الزواج، فإذا عزمت على الخطبة يكون السؤال عن الفتاة وأهلها أولاً، ثم تكون الاستخارة، ثم بعد الاستخارة تنظر إلى الفتاة، لما روى ابن ماجه في الحديث الصحيح عن المغيرة بن شعبة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: (اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما).
أيها الإخوة: لو قلنا الوجه والكفان ليسا بعورة، ولا يجب سترهما، إذاً يباح النظر إليهما، وما دام أن الخاطب يرى من مخطوبته الوجه والكفين إذاً لماذا ينظر إليهما في الخطبة؟ لأن هذا تحصيل حاصل، ولكن عندما أباح الإسلام أن ينظر إلى وجه المخطوبة وكفيها فقط، فهذا دليل على وجوب سترهما. وإذا كان هذا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بعصرنا؟ ونحن ندفع الثمن، وخاصة إذا رأينا الكثير من العلماء يقول إن الوجه ليس بعورة، وربما كانت بعض النساء تستر وجهها فكشفته، ولو سئلت هذه المرأة بإنصاف لقالت: إنها رأت ما يخدش حياءها من نظر الرجال إليها بعد كشف وجهها، لأن الذئاب البشرية اليوم كُثُر، فحتى لو لم يكن هناك دليل على وجوب ستر الوجه ينبغي على المرأة المسلمة العاقلة أن تسدل على وجهها، لأن هناك فتنة في المجتمع، والوجه مجمع المحاسن.
لذلك في الخطبة ينظر الخاطب إلى مخطوبته إلى وجهها وكفيها فقط، وتنظر هي إليه، وذكرنا في الدرس الماضي أنه لا بد من وجود مَحرم، ولا يجوز حضور أمها أو غيرها من النساء، كما تحرم المصافحة، لأن المخطوبة لا تزال أجنبية عنه، والإسلام حرَّم على الرجل مصافحة الرجل الأجنبية، لأن الله تعالى قال في القرآن العظيم: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، وقال أيضاً: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}، فإذا حرم الإسلام النظر لأنه يحرِّك في الرجل والمرأة الشهوة، فالمصافحة من باب أولى لأنها أكثر إثارة للشهوة. ومثال هذا قول الله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}، فالله تعالى حرَّم كلمة أف، فكان الضرب حراماً من باب أولى.
والنبي صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا وما مست يده يد امرأة لا تحل له، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (وما مست يده يد امرأة قط إلا امرأة يملكها) [رواه أحمد] مع أنه صلى الله عليه وسلم معصوم، وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: وأيكم يملك إربه ـ أي شهوته ـ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه [رواه البخاري ومسلم]، ومع ذلك ما مست يده يد امرأة لا تحل له، لذلك عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الرجال يبايعهم مصافحة، أما النساء فكان يبايعهن بالكلام فقط. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مست يده يد امرأة لا تحل له فكيف أنا وأنت والخاطب...؟
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) [رواه الطبراني والبيهقي وقال المنذري: رجال الطبراني ثقات رجال الصحيح، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح].
كما أنه لا يجوز له أن يخلو بها، لما رواه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان). ولأن الخطبة لا تؤثر في المحرمات شيئاً، إلا أن الإسلام أباح لك أن تنظر، فإذا خشي الخاطب على نفسه أن تتحرك شهوته من النظر، فقد قال جمهور الفقهاء بجواز النظر، لأنه ينظر إليها لا بقصد التمتع بالنظر، وإنما بقصد التعرّف، وهو مضطر لذلك، فلو نظر أو نظرت بشهوة فلا حرج في ذلك. وبعض الفقهاء شدَّد فقال: إذا كان يخشى على نفسه أن تتحرك الشهوة فيحرم عليه النظر إلى المخطوبة، فكيف إلى غير المخطوبة؟
فإذا تمَّت الخِطبة فيندب أن تكون خُطبة بين يدي الخِطبة، تُبدأ الخُطبة ببسم الله والحمد لله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع) [رواه النسائي وغيره]. ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: جئتكم خاطباً كريمتكم، لأنه في الحقيقة يعطيك أغلى شيء عنده، فلماذا بعد الزواج تكون عندك أرخص شيء؟ هذا ليس من شأن الكرام، لذلك تذكر هذه الكلمة عندما تقولها في أيام الخطوبة، وهذه هي الكلمة الأولى، والكلمة الثانية في العقد عندما يقول لك ولي المخطوبة: زوَّجتك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني أن تعاملها من خلال الكتاب والسنة، فتقول: قبلت زواجها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تعني أعطيك عهداً أن لا أتعامل معها إلا على الكتاب والسنة.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمنا خطبة الحاجة: الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. ثم يقرأ ثلاث آيات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [رواه أبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي].
ثم يقول بعد ذلك: أما بعد: فإن الأمور كلَّها بيد الله، يقضي فيها ما يشاء ويحكم ما يريد، لا مؤخِّر لما قدَّم ولا مقدِّم لما أخَّر، ولا يجتمع اثنان ولا يفترقان إلا بقضاء وقدر وكتاب من الله قد سبق، وإن مما قضى الله وقدر أن خطب فلان بن فلان فلانة بنت فلان على صداق كذا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين.
فإذا تمَّت الخطبة فقد اعتاد الناس سابقاً أن يقدم الخاطب لمخطوبته خاتماً، فصارت العادة الآن خواتماً مع سلسال مع ساعة... وهذا لا ينبغي لأنه من التكلّف والإثقال على الخاطب.
ولا يجوز أن يقدِّم أهل المخطوبة للخاطب خاتماً من ذهب، لأن لبس الذهب حرام على الرجال، ومن لبس من الرجال خاتماً من ذهب فكأنه وضع جمرة من نار في يده، وكذلك البلاتين لا يجوز، لأن قد نص فقهاء الحنفية رضي الله عنهم أنه يباح للرجل أن يلبس خاتماً من فضة، أما السلسال والبلاك وما عدا ذلك فكله لا يجوز، وقالوا: لا يجوز أن يلبس إلا الفضة، فيكفي أن يقدِّم أهل المخطوبة خاتماً من فضة للخاطب، وأن يقدِّم الخاطب خاتماً من ذهب للفتاة.
فإذا قُدِّمت بعض الهدايا أثناء فترة الخطوبة، ثم تمَّ العزوف عن الخطبة، فهذه الهدايا التي تُقدَّم للمخطوبة لم تقدم بسبب وجود علاقة أو صداقات، وإنما قُدِّمت من أجل الزواج، فإن عزف الخاطب أو عزفت المخطوبة عن الزواج أُعيدت هذه الهدايا إلى صاحبها ما دامت موجودة، أما إذا استُهلكت فلا يُرَد مثلها.
فإذا تمَّت الخطبة يكون بعدها عقد الزواج، وهذا العقد وألفاظه وما يترتب عليه نتحدث عنه في الدرس القادم إن أحيانا الله عز وجل. والحمد لله رب العالمين.
** ** **
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
لِتَحْقِيقِ السَّعَادَةِ في حَيَاتِنَا الأُسَرِيَّةِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ القُرْآنِ العَظِيمِ تَعَامُلَاً صَحِيحَاً، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتِّلَاوَةِ مَعَ التَّدَبُّرِ، قَالَ تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ... المزيد
كُلَّمَا تَذَكَّرْنَا يَوْمَ الحِسَابِ، يَوْمَ العَرْضِ عَلَى اللهِ تعالى، يَوْمَ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تعالى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلَاً، وَكُلَّمَا تَذَكَّرْنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَنَعِيمَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ، ... المزيد
صَلَاحُ أُسَرِنَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا عَرَفَ كُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ الغَايَةَ مِنْ وُجُودِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ الكَثِيرُ مِنَ الأَزْوَاجِ مِمَّنْ دَخَلَ الدُّنْيَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ لَا يَدْرِي وَلَا يَعْلَمُ لِمَاذَا ... المزيد
القُرْآنُ العَظِيمُ الذي أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ، وَاصْطَفَانَا لِوِرَاثَتِهِ هُوَ مَصْدَرُ سَعَادَتِنَا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَمَنْ أَرَادَ السَّعَادَةَ في حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَعَلَيْهِ ... المزيد
إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ شَقَاءِ البُيُوتِ، وَكَثْرَةِ الخِلَافَاتِ بَيْنَ الأَزْوَاجِ، المَعَاصِيَ وَالمُنْكَرَاتِ، التي تُنَكِّسُ الرُّؤُوسَ في الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ، وَالتي تُسْلِمُ إلى مُقَاسَاةِ العَذَابِ الأَلِيمِ في الدُّنْيَا قَبْلَ ... المزيد
سِرُّ سَعَادَتِنَا في حَيَاتِنَا الزَّوْجِيَّةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَحَوُّلِنَا مِنَ الشَّقَاءِ إلى السَّعَادَةِ القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ هِدَايَتِنَا مِنَ الضَّلَالِ إلى الهُدَى القُرْآنُ العَظِيمُ، وَسِرُّ تَمَاسُكِ أُسَرِنَا ... المزيد