126ـ كلمة شهر شعبان 1438: سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر شعبان
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَيْنَا بَعْدَ الإِيمَانِ أَنَّهُ يَمُدُّ في آجَالِنَا، حَتَّى نَغْتَنِمَ مِنْ أَيَّامِ عُمُرِنَا لِآخِرَتِنَا، وَنَحْرُثَ فِيهَا مَا اسْتَطَعْنَا، وَنَبْذُرَ فِيهَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا اسْتَطَعْنَا.
لَقَدْ مَضَى شَهْرُ رَجَبَ الفَرْدُ، وَهَذَا شَهْرُ شَعْبَانَ قَدْ دَخَلَ، فَازَ مَنْ فَازَ في شَهْرِ رَجَبٍ، وَهُوَ مُتَابِعٌ طَرِيقَ الفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ في شَهْرِ شَعْبَانَ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ دَخَلَ شَهْرُ شَعْبَانَ الذي غَفَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، مَعَ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ الأُمَّةَ إلى هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، فَقَالَ: «وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ» رواه الإمام أحمد عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في شَهْرِ شَعْبَانَ:
يَا عِبَادَ اللهِ: حَقِيقَةً النَّاسُ في غَفْلَةٍ عَظِيمَةٍ عَنْ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ الذي هُوَ مُقَدِّمَةٌ لِشَهْرِ رَمَضَانَ، فَالمُحِبُّ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُوَ الذي يَنْظُرُ إلى حَبِيبِهِ في شَهْرِ شَعْبَانَ كَيْفَ كَانَ؟
روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرَاً أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ.
يَقُولُ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَقَوْلُهَا: كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُهُ إِلَّا قَلِيلَاً، الثَّانِي تَفْسِيرٌ للأَوَّلِ وَبَيَانُ أَنَّ قَوْلَهَا كُلَّهُ أَيْ غَالِبَهُ؛ وَقِيلَ: كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ في وَقْتٍ وَيَصُومُ بَعْضَهُ في سَنَةٍ أُخْرَى؛ وَقِيلَ: كَانَ يَصُومُ تَارَةً مِنْ أَوَّلِهِ وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ وَتَارَةً بَيْنَهُمَا، وَمَا يُخَلِّي مِنْهُ شَيْئَاً بِلَا صِيَامٍ، لَكِنْ في سِنِينَ، وَقِيلَ في تَخْصِيصِ شَعْبَانَ بِكَثْرَةِ الصَّوْمِ لِكَوْنِهِ تُرْفَعُ فِيهِ أَعْمَالُ العِبَادِ. اهـ.
وروى النسائي عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرَاً مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ.
قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ».
وروى الترمذي عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ إِلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ.
وفي رواية النسائي وأبي داود عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنَ السَّنَةِ شَهْرَاً تَامَّاً إِلَّا شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ غَفَلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَنْ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، لِأَنَّهُ بَيْنَ شَهْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ، وَهُمَا شَهْرُ رَجَبٍ الحَرَامُ، وَشَهْرُ الصِّيَامِ رَمَضَانُ.
لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْمُرُ شَهْرَ شَعْبَانَ بِالطَّاعَةِ وَبِالصِّيَامِ، لِأَنَّهُ شَهْرٌ تُعْرَضُ فِيهِ الأَعْمَالُ عَلَى اللهِ تعالى، فَكَانَ يُحِبُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْفَعَ أَعْمَالُهُ وَهُوَ صَائِمٌ.
«فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَحْنُ في زَمَنِ الغَفْلَةِ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، وَأَكْبَرُ دَلِيلٍ عَلَى الغَفْلَةِ مَا يَجْرِي في بَلَدِنَا عَلَى أَيْدِي بَعْضِنَا، فَالسَّعِيدُ المُوَفَّقُ مَنِ اغْتَنَمَ هَذَا الشَّهْرَ بِالطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، وَلَو كَانَ يَشْعُرُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ غَرِيبٌ في مُجْتَمَعِهِ، السَّعِيدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في زَمَنٍ قَلَّ فِيهِ أَعْوَانُ الخَيْرِ لِيَنَالَ أَجْرَ خَمْسِينَ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
روى الترمذي عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟
قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟
قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾.
قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرَاً، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحَّاً مُطَاعَاً، وَهَوَىً مُتَّبَعَاً، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعِ العَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَاً الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ القَبْضِ عَلَى الجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلَاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ».
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلَاً مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟
قَالَ: «بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلَاً مِنْكُمْ».
وفي رِوَايَةٍ في إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ: «لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الخَيْرِ أَعْوَانَاً، وَلَا يَجِدُونَ عَلَيْهِ أَعْوَانَاً».
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبَاً، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبَاً، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أُذَكِّرُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِاغْتِنَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ بِالصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ، وَخَاصَّةً في زَمَنِ الهَرْجِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» رواه الإمام مسلم عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
إِنِ اسْتَوْلَتِ الغَفْلَةُ عَلَى النَّاسِ في وَقْتِ الفِتَنِ فَاتَّبَعُوا الأَهْوَاءَ وَالشَّهَوَاتِ، وَانْشَغَلُوا عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ بِزَهْقِ أَرْوَاحِهِمْ، وَإِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ، وَالذَّهَابِ بِرِيحِهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى، فَلْنَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْ هَذِهِ الغَفْلَةِ، وَذَلِكَ بِالاعْتِصَامِ بِكِتَابِ اللهِ تعالى، وَهَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ، وَرُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الخميس: 1/ شعبان /1438هـ، الموافق: 27/نيسان / 2017م
اضافة تعليق |
وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا مَضَى مِنْ عُمُرِنَا وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا هِجْرِيًّا جَدِيدًا، لَا نَدْرِي أَيَنْتَهِي فِيهِ أَجَلُنَا أَمْ لَا. عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ الْمَوْتَ حَتْمٌ لَازِمٌ لَا مَنَاصَ مِنْهُ لِكُلِّ ... المزيد
هَذِهِ العَشْرُ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَبْوَابُ التَّنَافُسِ فِيهَا قَدْ فُتِحَتْ، فَهَلْ مِنْ مُنَافِسٍ فِي الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى؟ فَالأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الأَيَّامِ ... المزيد
الإِيمَانُ الحَقِيقِيُّ يُخْرِجُ العَبْدَ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالمِحَنِ وَالكُرُوبِ، وَيَجْعَلُهُ فِي حَالَةِ ارْتِبَاطٍ بِاللهِ تَعَالَى وَاليَوْمِ الآخِرِ، الإِيمَانُ هُوَ دِرْعُ وَسِلَاحُ وَمَنَارُ المُؤْمِنِ وَقْتَ الشَّدَائِدِ القَاسِيَةِ، ... المزيد
مَا أَجْمَلَ الأَتْقِيَاءَ وَأَكْرَمَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، تَآلَفَتْ قُلُوبُهُمْ فِي اللهِ تَعَالَى وَعَلَى طَاعَتِهِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ ... المزيد
مَنْ حُجِبَ عَنِ العِلْمِ عَذَّبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى جَهْلِهِ، وَأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ العِلْمُ فَأَدْبَرَ عَنْهُ، وَسَاقَ اللهُ إِلَيْهِ الهُدَى فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ ... المزيد
الإِنْسَانُ خُلِقَ لِلْجَنَّةِ، وَالجَنَّةُ خُلِقَتْ لَهُ، وَالجَنَّةُ هِيَ سِلْعَةٌ، وَسِلْعَةُ اللهِ غَالِيَةٌ، وَثَمَنُهَا فِي الدُّنْيَا؛ فَمَا هُوَ ثَمَنُ الجَنَّةِ؟ ثَمَنُ الجَنَّةِ هُوَ العِبَادَةُ للهِ تعالى، وَالإِسْلَامُ عَقَائِدُ ... المزيد