9ـ أثر الإيمان بالآخرة في النفوس (3)

9ـ أثر الإيمان بالآخرة في النفوس (3)

9ـ أثر الإيمان بالآخرة في النفوس (3)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

كَمَا أَنَّ مِنْ آثَارِ الإِيمَانِ بِالآخِرَةِ في النُّفُوسِ أَنَّهُ يُسَهِّلُ عَلَى الإِنْسَانِ بَذْلَ النَّفْسِ وَالنَّفِيسِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى، وَذَلِكَ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَبْذُلُ مَا هُوَ عَزِيزٌ عِنْدَهُ إِلَّا لِيَنَالَ مَا هُوَ أَعَزُّ عِنْدَهُ، وَلَا يَبْذُلُ مَا هُوَ ثَمِينٌ إِلَّا لِيَنَالَ مَا هُوَ أَغْلَى ثَمَنَاً، وَإِنَّ أَعَزَّ شَيْءٍ عِنْدَ الإِنْسَانِ نَفْسُهُ ثُمَّ مَالُهُ، فَلَا يَبْذُلُهُمَا إِلَّا لِيَنَالَ مَا هُوَ أَعَزُّ وَأَكْرَمُ.

فَالمُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ لَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُ إِذَا بَذَلَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ في مَرْضَاةِ اللهِ تعالى، وَفِيمَا يُقَرِّبُهُ إلى اللهِ تعالى، وفي الجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ تعالى، وفي المُسَاعَدِةِ لِعِبَادِ اللهِ تعالى؛ قَاصِدَاً بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ تعالى، وَمَا عِنْدَ اللهِ تعالى، هَانَ عَلَيْهِ بَذْلُ نَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَسَهُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِإِيمَانِهِ بِوَفَاءِ اللهِ تعالى بِمَا وَعَدَهُ بِهِ مِنَ الجَنَّةِ، التي أَعْلَنَ اللهُ تعالى عَنْهَا أَنَّهَا الثَّمَنُ وَالعِوَضُ للأَنْفُسِ وَالأَمْوَالِ، في الشِّرَاءِ الذي أَعْلَنَهُ وَأَعْلَمَ بِهِ، وَأَكَّدَهُ وَحَقَّقَهُ:

قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدَاً عَلَيْهِ حَقَّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾.

وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الإِيمَانَ يَنْهَضُ بِهِمَّةِ صَاحِبِهِ، وَيُقَوِّي عَزِيمَتَهُ عَلَى الإِقْدَامِ وَالبَذْلِ بِلَا إِحْجَامٍ وَلَا بُخْلٍ.

روى الإمام مسلم مِنْ حَدِيثِ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَفِيهِ قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (فَدَنَا المُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ».

قَالَ: فَجَعَلَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ».

فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ يَا رَسُولَ اللهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟».

قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا.

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا».

قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ ـ أَيْ: جُعْبَتِهِ ـ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ.

قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ).

وَفِي: (صَحِيحِ) مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ عَمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: (فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَاسْتَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَقَالَ لَهُ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ؟

فَقَالَ: وَاهَاً لِرِيحِ الجَنَّةِ، أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ).

وَعِنْدَ البُخَارِيِّ: (فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ: الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ.

قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعَاً وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَمَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ بِشَامَةٍ أَو بِبَنَانِهِ) الحَدِيثَ.

وَمِنْ آثَارِ الإِيمَانِ بِالآخِرَةِ أَنَّهُ يُهَوِّنُ عَلَى صَاحِبِهِ الشَّدَائِدَ وَالمَصَائِبَ، وَيُخَفِّفُ عَنْهُ المَسَاوِئَ وَالمَصَاعِبَ، وَذَلِكَ أَنَّ الإِنْسَانَ مُعَرَّضٌ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا للمَصَائِبِ وَالمَكَارِهِ: في نَفْسِهِ، أَو وَلَدِهِ، أَو مَالِهِ، أَو مَا يَلُوذُ بِهِ.

فَالمُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ تَهُونُ عَلَيْهِ المَصَائِبُ وَمَا يَعْتَرِيهِ مِنْ مَرَضٍ أَو هَمٍّ أَو غَمٍّ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللهِ تعالى، وَسَوْفَ يُؤْجِرُهُ اللهُ تعالى عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ.

كَمَا جَاءَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ» أَيْ: تَعَبٍ «وَلَا وَصَبٍ» أَيْ: مَرَضٍ «وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذَىً، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا: إِلَّا كَفَّرَ اللهُ تعالى بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» رواه البخاري ومسلم، وابنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَفي رِوَايَةٍ لَهُ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُشَاكُ بِشَوْكَةٍ فِي الدُّنْيَا يَحْتَسِبُهَا» أَيْ: يَعْلَمُ أَنَّهَا مِنَ اللهِ تعالى، وَيَحْتَسِبُ أَجْرَهَا عِنْدَ اللهِ «إِلَّا قُصَّ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

وروى ابنُ أَبِي الدُّنْيَا أَيْضَاً بِسَنَدِ الثِّقَاتِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صُدَاعُ المُؤْمِنِ، وَشَوْكَةٌ يُشَاكُهَا، أَو شَيْءٌ يُؤْذِيهِ يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ دَرَجَةً، وَيُكَفِّرُ بِهَا عَنْهُ ذُنُوبَهُ».

وَأَمَا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالآخِرَةِ فَحِينَ تُصِيبُهُ المُصِيبَةُ، أَو تَعْتَرِيهِ الأَمْرَاضُ وَالآلَامُ وَالهُمُومُ فَإِنَّهَا تَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ شِدَّتُهَا وَكُرُبَاتُهَا.

أولاً: لِأَنَّهَا في نَفْسِهَا مُؤْلِمَةٌ وَمُحْزِنَةٌ.

ثانياً: لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ يُسَلِّيهِ عَنْ شِدَّتِهَا، وَيُخَفِّفُ عَنْهُ أَلَمَهَا: مِنْ أَجْرٍ يَلْقَاهُ، أَو خَيْرٍ يَتَلَقَّاهُ مُقَابِلَ مُصِيبَتِهِ وَكَرْبِهِ، فَهُوَ يَضِيقُ بِنَفْسِهِ ذَرْعَاً، وَلَا يَجِدُ مَا يُهَوِّنُ عَلَيْهِ شِدَّتَهُ، وَيُسَلِّيهِ عَنْ مُصِيبَتِهِ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 20/ محرم /1441هـ، الموافق: 19/ أيلول / 2019م

 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

11-01-2024 170 مشاهدة
60ـ يستقبل أمته على الحوض

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ أُمَّتَهُ عَلَى الحَوْضِ وَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ: ... المزيد

 11-01-2024
 
 170
29-12-2023 168 مشاهدة
59ـ ينتظر الواردين من أمته

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ، ... المزيد

 29-12-2023
 
 168
14-12-2023 176 مشاهدة
58ـ عالم الحوض

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾. في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ يَذْكُرُ اللهُ تعالى فَضْلَهُ العَظِيمَ عَلَى رَسُولِهِ الكَرِيمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى ... المزيد

 14-12-2023
 
 176
28-09-2023 494 مشاهدة
57ـ لواء الحمد

لَقَدْ ثَبَتَ بِالأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِوَاءً عَالِيًا عَلَى جَمِيعِ أَلْوِيَةِ الشَّرَفِ وَالكَرَامَةِ، وَاسِعًا كُلَّ السَّعَةِ، يَأْوِي ... المزيد

 28-09-2023
 
 494
16-09-2023 461 مشاهدة
56ـ حشر كل إنسان مع محبوبه

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد

 16-09-2023
 
 461
25-07-2023 272 مشاهدة
55ـ طول الموقف يوم القيامة

قَالَ تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * ... المزيد

 25-07-2023
 
 272

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3161
المكتبة الصوتية 4797
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 413965669
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :