60ـ يستقبل أمته على الحوض

60ـ يستقبل أمته على الحوض

60ـ يستقبل أمته على الحوض

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ أُمَّتَهُ عَلَى الحَوْضِ وَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ:

رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتِي الْحَوْضَ، وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ».

قَالُوا يَا نَبِيَّ اللهِ، أَتَعْرِفُنَا؟

قَالَ: «نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا ـ أَيْ: عَلَامَةٌ ـ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّي طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَلَا يَصِلُونَ ـ أَيْ: لَا يَصِلُونَ إِلَيَّ، بَلْ يُمْنَعُونَ ـ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِي.

فَيُجِيبُنِي مَلَكٌ، فَيَقُولُ: وَهَلْ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟».

وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ حَوْضِيَ لَأَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَذُودُ عَنْهُ ـ أَيْ: أَمْنَعُ عَنْهُ ـ الرِّجَالَ كَمَا يَذُودُ ـ أَيْ: كَمَا يَمْنَعُ ـ الرَّجُلُ الْإِبِلَ الْغَرِيبَةَ عَنْ حَوْضِهِ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَتَعْرِفُنَا؟

قَالَ: «نَعَمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ».

وَالغُرُّ: جَمْعُ أَغَرَّ، وَهُوَ ذُو الغُرَّةِ؛ وَالمُحَجَّلُونَ جَمْعُ: مُحَجَّلٍ.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْغُرَّةُ بَيَاضٌ فِي جَبْهَةِ الْفَرَسِ، وَالتَّحْجِيلُ بَيَاضٌ فِي يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا.

قَالَ العُلَمَاءُ: سُمِّيَ النُّورُ الذي يَكُونُ عَلَى مَوَاضِعِ الوُضُوءِ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرَّةً وَتَحْجِيلًا، تَشْبِيهًا بِغُرَّةِ الفَرَسِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ.

فَهَذِهِ الأُمّةُ المُحَمَّدِيَّةُ لَهَا سِيمَا ـ أَيْ: عَلَامَةٌ ـ يَوْمَ القِيَامَةِ، يُعْرَفُونَ بِهَا، وَهِيَ الغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ في الدُّنْيَا.

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الوُضُوءَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ ـ زَادَهَا اللهُ تعالى شَرَفًا ـ.

وَقَالَ: آخَرُونَ: لَيْسَ الوُضُوءُ مُخْتَصًّا بِهَا، وَإِنَّمَا الذي اخْتَصَّتْ بِهِ هَذِهِ الأُمَّةُ الغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ، وَاحْتَجُّوا بِالحَدِيثِ الآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي».

وَأَجَابَ الأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا بِجَوَابَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفُ الضَّعْفِ، وَالثَّانِي: لَو صَحَّ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الأَنْبِيَاءُ اخْتَصَّتْ بِالوُضُوءِ دُونَ أُمَمِهِمْ، إِلَّا هَذِهِ الأُمَّةَ ـ وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَتَى المَقْبَرَةَ، فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا».

قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ».

فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

فَقَالَ: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟».

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ؛ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا» أَيْ: بُعْدًا لَكُمْ، بُعْدًا لَكُمْ.

وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ العُلَمَاءُ إلى أَنَّ هَؤُلَاءِ الذينَ يُمْنَعُونَ عَنْ حَوْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُمُ المُنَافِقُونَ، الذينَ أَظْهَرُوا الإِسْلَامَ وَأَبْطَنُوا الكُفْرَ، وَكَذَلِكَ المُرْتَدُّونَ الذينَ أَسْلَمُوا أَوَّلًا ثُمَّ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ.

قَالَ العُلَمَاءُ: فَيَجُوزُ أَنْ يُحْشَرَ هَؤُلَاءِ بِالغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ المُنَافِقِينَ كَانُوا مُسْلِمِينَ بِالظَّاهِرِ، وَمُصَلِّينَ بِالظَّاهِرِ، وَكَذَا المُرْتَدُّونَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ في أَوَّلِ أَمْرِهِمْ وَمُصَلِّينَ، فَيُنَادِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للسِّيمَا التي عَلَيْهِمْ، فَيُقَالُ: لَيْسَ هَؤُلَاءِ مِمَّا وُعِدْتَ بِهِمْ، إِنَّ هَؤُلَاءِ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، أَمَّا المُنَافِقُونَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَمُوتُوا عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ إِسْلَامِهِمْ، وَأَمَّا المُرْتَدُّونَ فَإِنَّهُمْ بَدَّلُوا حَيْثُ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ.

وَهَذَا الحَدِيثُ لَا يَتَنَافَى مَعَ الحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى عَرْضِ أَعْمَالِ الأُمَّةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لَكُمْ». فَإِنَّ الذي يُعْرَضُ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَعْمَالُ أُمَّتِهِ المُؤْمِنِينَ بِهِ حَقًّا، لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَيَدْعُوَ اللهَ لَهُمْ، وَأَمَّا الكُفَّارُ مِنْ أُمَّتِهِ ـ وَمِنْهُمُ المُنَافِقُونَ وَالمُرْتَدُّونَ ـ فَإِنَّ أَعْمَالَهُمْ لَا تُعْرَضُ هَذَا العَرْضَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِأَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، وَيَدْعُوَ لَهُمْ، فَلَا فَائِدَةَ في عَرْضِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ أَهْلُ المَعْرِفَةِ: وَالحِكْمَةُ في ذَوْدِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَقِيَّةَ الأُمَمِ عَنْ حَوْضِهِ إِرْشَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ إلى حَوْضِ نَبِيِّهِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ إِنْصَافِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَرِعَايَتِهِ إِخَوَانَهُ  النَّبِيِّينَ، وَتَكْرِيمِهِ لَهُمْ، لَا أَنْ يَطْرُدَهُمْ عَنْ حَوْضِهِ بُخْلًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بَنِي آدَمَ، وَأَكْرَمُ خَلْقِ اللهِ تعالى أَجْمَعِينَ.

وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً».

قَالَ الحَافِظُ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ.

وَقَالَ: وَقَدْ رَوَى الأَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ هَذَا الحَدِيثَ، عَنِ الحَسَنِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ أَصَحُّ. اهـ.

قَالَ العَلَّامَةُ الزُّبَيْدِيُّ: قُلْتُ: وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ كَذَلِكَ، وَأَشاَر التِّرْمِذِيُّ إلى وَصْلِهِ وَصَحَّحَ إِرْسَالَهُ، وَالمُرْسَلُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الحَسَنِ رَفَعَهُ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى حَوْضِهِ بِيَدِهِ عَصًا يَدْعُو مَنْ عَرَفَ مِنْ أُمَّتِهِ، أَلَا وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهُونَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ تَبَعًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَبَعًا».

قَالَ الإِمَامُ الغَزَالِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَهَذَا رَجَاءُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ أَيْ: وَهُوَ أَكْثَرِيَّةُ أَتْبَاعِهِ الوَارِدِينَ عَلَى حَوْضِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ: فَلْيَرْجُ كُلُّ عَبْدٍ أَنْ يَكُونَ في جُمْلَةِ الوَارِدِينَ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ مُتَمَنِّيًا وَمُغْتَرًّا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ رَاجٍ، فَإِنَّ الرَّاجِيَ للحَصَادِ مَنْ بَذَرَ وَنَقَّى الأَرْضَ ـ أَيْ: حَرَثَهَا وَسَقَاهَا المَاءَ ـ ثُمَّ جَلَسَ يَرْجُو فَضْلَ اللهِ تعالى بِالإِنْبَاتِ، وَدَفْعِ الصَّوَاعِقِ إلى أَوَانِ الحَصَادِ.

قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَأَمَّا مَنْ تَرَكَ الحِرَاثَةَ أَو الزِّرَاعَةَ وَتَنْقِيَةَ الأَرْضِ وَسَقْيَهَا وَأَخَذَ يَرْجُو مِنْ فَضْلِ اللهِ أَنْ يُنْبِتَ لَهُ الحَبَّ وَالفَاكِهَةَ فَهَذَا مُغْتَرٌّ وَمُتَمَنٍّ وَلَيْسَ مِنَ الرَّاجِينَ في شَيْءٍ.

وَهَكَذَا رَجَاءُ أَكْثَرِ الخَلْقِ وَهُوَ غُرُورُ الحَمْقَى، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الغُرُورِ وَالغَفْلَةِ، فَإِنَّ الاغْتِرَارَ بِاللهِ أَعْظَمُ مِنَ الاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا، قَالَ تعالى: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ﴾. انْتَهَى كَلَامُ الغَزَالِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَعْنِي: أَنَّ مَنْ كَانَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنَ الوَارِدِينَ عَلَى حَوْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَلْيَعْمَلْ بِشَرِيعَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى قَدْرِ اتِّبَاعِ الإِنْسَانِ شَرِيعَةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَحَقُّقِهِ بِهَا وَعَمَلِهِ بِمُقْتَضَاهَا، يَكُونُ وُرُودُهُ عَلَى حَوْضِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَضَايَا الآخِرَةِ تَظْهَرُ فِيهَا حَقَائِقُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الإِنْسَانُ في الدُّنْيَا مِنَ العَقَائِدِ وَالأَعْمَالِ وَالأَقْوَالِ.

فَمَنْ كَانَ في الدُّنْيَا قَدْ أُشْرِبَ في قَلْبِهِ الإِيمَانُ المُحَمَّدِيُّ، وَالشَّرْعُ المُحَمَّدِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُذِنَ لَهُ في الشُّرْبِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ حَوْضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مَشْرَبًا رَوِيًّا، سَائِغًا هَنِيئًا لَا يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَدًا.

وَمَنْ لَمْ يَتَشَرَّبْ قَلَبُهُ الإِيمَانَ وَالشَّرْعَ المُحَمَّدِيَّ، فَلَا نَصِيبَ لَهُ مِنْ حَوْضِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَالمُنَافِقِينَ وَالمُرْتَدِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الحَدِيثُ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنَ الحَوْضِ الشَّرِيفِ.

مَوْقِعُ الحَوْضِ الشَّرِيفِ

قَالَ العَلَّامَةُ الزُّبَيْدِيُّ في شَرْحِ الإِحْيَاءِ: فَصْلٌ في مَحَلِّ الحَوْضِ:

قَالَ القُرْطُبِيُّ في التَّذْكِرَةِ: ذَهَبَ صَاحِبُ القُوتِ وَغَيْرُهُ إلى أَنَّ الحَوْضَ يَكُونُ بَعْدَ الصِّرَاطِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلى العَكْسِ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَهُ حَوْضَانِ: أَحَدُهُمَا فِي المَوْقِفِ قَبْلَ الصِّرَاطِ، وَالآخَرُ دَاخِلَ الجَنَّةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى كَوْثَرًا.

قَالَ الزُّبَيْدِيُّ: وَتَعَقَّبَهُ الحَافِظُ في الفَتْحِ، بِأَنَّ الكَوْثَرَ نَهْرٌ دَاخِلَ الجَنَّةِ، وَمَاؤُهُ يَصُبُّ في الحَوْضِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الحَوْضِ كَوْثَرًا لِكَوْنِهِ يُمَدُّ مِنْهُ.

فَغَايَةُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ القُرْطُبِيِّ أَنَّ الحَوْضَ يَكُونُ قَبْلَ الصِّرَاطِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَرِدُونَ المَوْقِفَ وَهُمْ عِطَاشٌ، فَيَرِدُ المُؤْمِنُونَ الحَوْضَ، وَتَتَسَاقَطُ الكُفَّارُ في النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَقُولُوا: رَبَّنَا عَطِشْنَا، فَتُرْفَعُ لَهُمْ جَهَنَّمُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَا تَرِدُونَ؛ فَيَظُنُّونَهَا مَاءً، فَيَتَسَاقَطُونَ فِيهَا . . . إلخ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 29/ جمادى الآخرة /1444هـ، الموافق: 11/ كانون الثاني / 2024م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

19-09-2024 115 مشاهدة
64ـ عما ورد من نسبة الذنوب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام (2)

وَأَمَّا مَا وَرَدَ في حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنِ اعْتِذَارِ الخَلِيلِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسَبَبِ الكَذَبَاتِ، فَإِنَّمَا هِيَ كَذَبَاتٌ صُورَةً لَا حَقِيقَةً، لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ المَعَارِيضِ، وَقَدْ جَاءَ ... المزيد

 19-09-2024
 
 115
10-09-2024 108 مشاهدة
63ـ عما ورد من نسبة الذنوب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام

يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا): الوَجْهُ الثَّانِي: في الجَوَابِ عَمَّا وَرَدَ مِنْ نِسْبَةِ الذُّنُوبِ للأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ ... المزيد

 10-09-2024
 
 108
15-08-2024 134 مشاهدة
62ـ حول أحاديث الشفاعة

أَوَّلًا: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فِيهِ إِعْلَانٌ بِمَقَامِ سِيَادَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإِعْلَامٌ لِجَمِيعِ ... المزيد

 15-08-2024
 
 134
25-07-2024 180 مشاهدة
61ـ الشفاعة وأنواعها

الشَّفَاعَةُ كَمَا قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: هِيَ انْضِمَامُ الأَدْنَى ـ أَيْ: لُجُوءُهُ وَقَصْدُهُ ـ إلى الأَعْلَى، لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مَا يَرُومُهُ، أَيْ: في جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنِ المَشْفُوعِ بِهِ. وَالشَّفَاعَةُ ... المزيد

 25-07-2024
 
 180
29-12-2023 414 مشاهدة
59ـ ينتظر الواردين من أمته

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ، ... المزيد

 29-12-2023
 
 414
14-12-2023 422 مشاهدة
58ـ عالم الحوض

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾. في هَذِهِ السُّورَةِ الكَرِيمَةِ يَذْكُرُ اللهُ تعالى فَضْلَهُ العَظِيمَ عَلَى رَسُولِهِ الكَرِيمِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى ... المزيد

 14-12-2023
 
 422

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5629
المقالات 3193
المكتبة الصوتية 4861
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 418340947
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :