16ـ عالم البرزخ

16ـ عالم البرزخ

16ـ عالم البرزخ

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

عَالَمُ البَرْزَخِ

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.

البَرْزَخُ هُوَ الوَاقِعُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَالمُرَادُ بِالبَرْزَخِ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ: هُوَ العَالَمُ الذي يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ بَعْدَ المَوْتِ، وَيَبْقَى فِيهِ إلى يَوْمِ البَعْثِ، فَهُوَ عَالَمٌ وَاقِعٌ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ عَالَمِ الآخِرَةِ، وَهَذَا أَوَّلُ البَرَازِخِ التي يَدْخُلُ فِيهَا الإِنْسَانُ إلى الآخِرَةِ.

وَيُسَمَّى عَالَمَ القَبْرِ، وَهُوَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ جِسْمُهُ، فَحَيْثُمَا صَارَ إِلَيْهِ الجِسْمُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ قَبْرُهُ، وَلَو في أَعْمَاقِ البِحَارِ، عَلَى أَنَّ تَسْمِيَتَهُ بِعَالَمِ القَبْرِ هِيَ أَغْلَبِيَّةٌ، لِأَنَّ جَمِيعَ الأَمْوَاتِ يَصِيرُونَ إلى عَالَمِ البَرْزَخِ، قُبِرُوا أَمْ لَمْ يُقْبَرُوا، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ المَوْتِ دَخَلُوا في عَالَمٍ آخَرَ غَيْرِ عَالَمِ الدُّنْيَا، دُخُولَاً حَقِيقِيَّاً وَهُوَ عَالَمُ البَرْزَخِ.

وَعَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي، وَتَذْكُرُ القَبْرَ فَتَبْكِي؟

فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «القَبْرُ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ».

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ» رواه الترمذي وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُنْشِدُ:

فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيــ   ***   ــمَةٍ وَإِنْ لَا فَإِنِّي لَا إِخَالَكَ نَاجِيَا

فَأَمْرُ البَرْزَخِ وَلُبْثُهُمْ في القُبُورِ مُؤَقَّتٌ، كَزِيَارَةِ الزَّائِرِ المُؤَقَّتَةِ، ثُمَّ المَصِيرُ إلى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾. يَعْنِي: شَغَلَتْكُمْ أَوْلَادُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ، وَالتَّكَاثُرُ فِيهَا، وَالتَّنَافُسُ عَلَيْهَا حَتَّى مُتُّمْ وَزُرْتُمُ القُبُورَ؛ وَالزِّيَارَةُ إِنَّمَا تَكُونُ مُدَّةً مُؤَقَّتَةً ثُمَّ يَنْتَقِلُ الزَّائِرُ إلى مَنْزِلِهِ الذي يُقِيمُ فِيهِ؛ وَذَلِكَ: إِمَا الجَنَّةَ بِالنِّسْبَةِ للمُؤْمِنِ، وَإِمَّا جَهَنَّمَ بِالنِّسْبَةِ للكُفَّارِ.

روى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسَاً عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَرَأَ: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ فَلَبِثَ هُنَيْهَةً ـ أَيْ: مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ ـ ثُمَّ قَالَ: يَا مَيْمُونُ مَا أَرَى المَقَابِرَ إِلَّا زِيَارَةً، وَمَا للزَّائِرِ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إلى مَنْزِلِهِ ـ أَيْ: الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ ـ.

وَسَمِعَ بَعْضُ الأَعْرَابِ رَجُلَاً يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: بُعِثَ القَوْمُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ ـ يَعْنِي: أَنَّ الزَّائِرَ سَيَرْحَلُ عَمَّا قَرِيبٍ مِنْ مَقَامِهِ إلى غَيْرِهِ ـ.

وَيُسَمَّى عَالَمَ الصُّورِ، لِأَنَّ أَرْوَاحَ الأَمْوَاتِ تَجْتَمِعُ فِيهِ، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجَاً﴾.

وَقَدْ أَمَرَنَا الشَّرْعُ أَنْ نُسَلِّمَ عَلَى الأَمْوَاتِ، وَنَقُومَ عَلَى قُبُورِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيَشْعُرُونَ كَأَهْلِ الدُّنْيَا؛ بَلْ أَقْوَى، وَلَو كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ سَلَامَاً، وَلَا يَرَوْنَ عَلَى قُبُورِهِمْ قَائِمَاً، لَكَانَ السَّلَامُ وَالقِيَامُ عَلَى قُبُورِهِمْ عَبَثَاً ـ وَهَذَا لَا يَقَعُ في شَرْعِ اللهِ الحَكِيمِ العَلِيمِ البَتَّةَ.

وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسْمَعُ لَهُمْ جَوَابٌ وَلَا خِطَابٌ، لِأَنَّهُمْ في بَرْزَخٍ في الآخِرَةِ الخَفِيَّةِ عَنِ الأَبْصَارِ، إِلَّا لِمَنْ كَشَفَ اللهُ تعالى لَهُ عَنْ ذَلِكَ: كَالأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَبَعْضِ الأَوْلِيَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

كَمَا أَنَّ عَالَمَ المَنَامِ بَرْزَخٌ: بَيْنَ عَالَمِ الأَشْبَاحِ وَبَيْنَ عَالَمِ الأَرْوَاحِ، وَتَظْهَرُ فِيهِ بَعْضُ أَحْكَامِ عَالَمَيِ الأَشْبَاحِ وَالأَرْوَاحِ، وَمِنْ هُنَا سُمِّي النَّوْمُ وَفَاةً، كَمَا سُمِّيَ المَوْتُ وَفَاةً لِتَشَابُهِهِمَا بَعْضَ الشَّبَهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ حَقِيقَةُ الوَفَاتَيْنِ، فَإِنَّ التَّوْفِيَةَ مَعْنَاهَا الأَخْذُ وَالقَبْضُ، تَقُولُ: تَوَفَّى دَيْنَهُ ـ أَيْ: اسْتَوْفَاهُ ـ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 15/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 12/ كانون الأول / 2019م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

19-09-2024 406 مشاهدة
64ـ عما ورد من نسبة الذنوب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام (2)

وَأَمَّا مَا وَرَدَ في حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنِ اعْتِذَارِ الخَلِيلِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسَبَبِ الكَذَبَاتِ، فَإِنَّمَا هِيَ كَذَبَاتٌ صُورَةً لَا حَقِيقَةً، لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ المَعَارِيضِ، وَقَدْ جَاءَ ... المزيد

 19-09-2024
 
 406
10-09-2024 403 مشاهدة
63ـ عما ورد من نسبة الذنوب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام

يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا): الوَجْهُ الثَّانِي: في الجَوَابِ عَمَّا وَرَدَ مِنْ نِسْبَةِ الذُّنُوبِ للأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ ... المزيد

 10-09-2024
 
 403
15-08-2024 328 مشاهدة
62ـ حول أحاديث الشفاعة

أَوَّلًا: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فِيهِ إِعْلَانٌ بِمَقَامِ سِيَادَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإِعْلَامٌ لِجَمِيعِ ... المزيد

 15-08-2024
 
 328
25-07-2024 461 مشاهدة
61ـ الشفاعة وأنواعها

الشَّفَاعَةُ كَمَا قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: هِيَ انْضِمَامُ الأَدْنَى ـ أَيْ: لُجُوءُهُ وَقَصْدُهُ ـ إلى الأَعْلَى، لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مَا يَرُومُهُ، أَيْ: في جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنِ المَشْفُوعِ بِهِ. وَالشَّفَاعَةُ ... المزيد

 25-07-2024
 
 461
11-01-2024 627 مشاهدة
60ـ يستقبل أمته على الحوض

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ أُمَّتَهُ عَلَى الحَوْضِ وَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ: ... المزيد

 11-01-2024
 
 627
29-12-2023 627 مشاهدة
59ـ ينتظر الواردين من أمته

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ، ... المزيد

 29-12-2023
 
 627

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5698
المقالات 3216
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 423359273
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :