6ـ سورة العلق (1)

6ـ سورة العلق (1)

6ـ سورة العلق (1)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ عَلَى قَلْبِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هِيَ سُورَةُ العَلَقِ، فَهِيَ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ بِالاتِّفَاقِ، نَزَلَتْ في مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، وَقَدْ نَزَلَ صَدْرُهَا أَوَّلَاً، مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾. إلى قَوْلِهِ تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.

نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ الخَمْسُ مَعَ بَدْءِ الوَحْيِ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حِينَمَا كَانَ يَتَعَبَّدُ اللهَ تعالى في غَارِ حِرَاءَ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ دِيَانَةِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَبَعْدُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَاتِ الخَمْسِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ، فَتَرَ الوَحْيُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ، قِيلَ: أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً، وَقِيلَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: سَنَتَيْنِ، وَلَا يُوجَدُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ يُثْبِتُ قَوْلَاً مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ، وَلَكِنْ فَتْرَةُ الوَحْيِ حَصَلَتْ وَوَقَعَتْ بِالاتِّفَاقِ دُونَ نَكِيرٍ.

مَا جَاءَ في الأَحَادِيثِ حَوْلَ سُورَةِ العَلَقِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ جَاءَ في صَحِيحِ البُخَارِيِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ التي كَانَتْ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الوَحْيِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ـ وَهُوَ التَّعَبُّدُ ـ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ﴾. قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ (أَيْ: ضَمَّنِي إلى صَدْرِهِ ضَمَّاً شَدِيدَاً، حَتَّى بَلَغَ غَايَةَ طَاقَتِي وَاحْتِمَالِي) ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾.

فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي» فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ.

فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي».

فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدَاً، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ (مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَهُوَ عِبْءٌ عَلَى غَيْرِهِ) وَتُكْسِبُ المَعْدُومَ (أَيْ: تُنِيلُهُ وَتُعْطِيهِ) وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ (هِيَ مَا يَنْزِلُ بِالإِنْسَانِ مِنَ الكَوَارِثِ وَالحَوَادِثِ المُؤْلِمَةِ).

فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَأً تَـنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخَاً كَبِيرَاً قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ.

فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟

فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى.

فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ (مَلَكُ الوَحْيِ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ) الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعَاً، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيَّاً إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟».

قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَـصْرَاً مُؤَزَّرَاً (هُوَ النَّصْرُ المُتَابَعُ بِالمَعُونَةِ وَالتَّقْوِيَةِ وَالدَّعْمِ).

ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذِهِ الآيَاتُ الكَرِيمَةُ مِنْ صَدْرِ سُورَةِ العَلَقِ تُعَلِّمُنَا بِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِّيَّاً، لَمْ يَتَعَلَّمِ القِرَاءَةَ وَلَا الكِتَابَةَ.

وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَيِّدِنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ». لِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿اقْرَأْ﴾. تِلَاوَةَ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلٍ: لَكَانَ الجَوَابُ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا أَقْرَأُ؟

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَتِ الأُمِّيَّةُ في حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَمَالَاً لَا نَقْصَاً، وَكَانَتْ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ، وَخُصُوصِيَّةً مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ، لِأَنَّهَا إِحْدَى عَنَاصِرِ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَدَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَمَّا الأُمِّيَّةُ فِينَا فَهِيَ صِفَةُ نَقْصٍ لَا صِفَةُ كَمَالٍ، لِذَلِكَ كَانَتْ أُمَّتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورَةً بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُرْضِيهِ عَنَا. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 29/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 1/آب / 2019م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  تفسير القرآن العظيم

05-11-2020 1293 مشاهدة
26ـ ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾

﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ إِشَارَةً إلى المُعَذَّبِينَ في نَارِ جَهَنَّمَ، حَيْثُ يُشْرِفُ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ في سَقَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ المَلَائِكَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ... المزيد

 05-11-2020
 
 1293
30-10-2020 1302 مشاهدة
25ـ ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾

بَعْدَ القَرَارِ النِّهَائِيِّ الذي تَوَصَّلَ إِلَيْهِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ في حَقِّ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَفي حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ تَفْكِيرٍ وَتَقْدِيرٍ وَتَرَيُّثٍ ... المزيد

 30-10-2020
 
 1302
30-10-2020 1041 مشاهدة
72ـ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾

إِنَّ حَالَةَ الكِبَرِ هِيَ الحَالَةُ التي يَحْتَاجَانِ فِيهَا إلى بِرِّ الوَلَدِ، وَذَلِكَ لِتَغَيُّرِ الحَالِ عَلَيْهِمَا بِالضَّعْفِ وَالكِبَرِ، لِذَا أَلْزَمَ الشَّارِعُ في هَذِهِ الحَالِةِ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا ... المزيد

 30-10-2020
 
 1041
22-10-2020 1163 مشاهدة
24ـ ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾

التَّفْكِيرُ هُوَ العَمَلُ البَدَهِيُّ للعَقْلِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ مِنْ وُجُودِ عَقْلٍ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ، لِأَنَّ العَقْلَ المَشْلُولَ لَيْسَ بِعَقْلٍ، بَلْ هُوَ جِهَازٌ مُعَطَّلٌ، وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. ... المزيد

 22-10-2020
 
 1163
15-10-2020 1826 مشاهدة
23ـ ﴿كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾

لَقَدْ دَلَّتْ رِوَايَاتُ أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَاتِ عَلَى أَنَّ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ قَدْ أَدْرَكَ عَظَمَةَ مَا سَمِعَ مِنْ آيَاتِ القُرْآنِ المَجِيدِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ البَشَرِ، وَعَبَّرَ عَنْ دَهْشَتِهِ، وَلَكِنَّهُ ... المزيد

 15-10-2020
 
 1826
08-10-2020 1520 مشاهدة
22ـ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ (3)

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾. هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿ذَرْنِي ... المزيد

 08-10-2020
 
 1520

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3162
المكتبة الصوتية 4798
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 414529085
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :