كلمة شهر جمادى الآخرة 1441
160ـ ادعاء الإيمان سهل
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الابْتِلَاءَاتِ سُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ يَبْتَلِي بِهَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يَدَّعِي الإِيمَانَ، لِأَنَّ الادِّعَاءَ سَهْلٌ، لَكِنَّ إِثْبَاتَ صِحَّةِ هَذَا الادِّعَاءِ أَمْرٌ عَسِيرٌ، مِنَ السَّهْلِ جِدَّاً أَنْ يَدَّعِيَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ يَمْلِكُ قُصُورَاً وَذَهَبَاً وَمَالَاً، لَكِنْ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ إِثْبَاتُ مِلْكِيَّتِهِ بِالدَّلَائِلِ الصَّرِيحَةِ الوَاضِحَةِ، فَإِنَّهُ مِنَ الصَّعْبِ أَنْ يُثْبِتَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ صَادِقَاً في هَذَا الادِّعَاءِ.
ادِّعَاءُ الإِيمَانِ لَيْسَ أَمْرَاً هَيِّنَاً، نَظَرَاً لِأَنَّ ثَمَرَتَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَالذي يَكُونُ مُؤْمِنَاً حَقِيقِيَّاً فَإِنَّ إِيمَانَهُ يَضْمَنُ لَهُ الفَوْزَ في الدَّارَيْنِ، وَالسَّعَادَةَ في الحَيَاتَيْنِ، فَهَذِهِ الثَّمَرَةُ لَيْسَتْ سَهْلَةً حَتَّى يَكُونَ الإِيمَانُ سَهْلَاً.
مَوْلَانَا جَلَّتْ قُدْرَتُهُ لَا يَتْرُكُ النَّاسَ عِنْدَ هَذِهِ الدَّعْوَى، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ اخْتِبَارِهِمْ وَابْتِلَائِهِمْ، قَالَ تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَـصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾.
مَنْ يُحَدِّدْ مَجَالَ الابْتِلَاءَاتِ؟
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مَجَالَ الابْتِلَاءَاتِ وَالمِحَنِ وَالفِتَنِ لَا يُحَدِّدُهَا العَبْدُ المُمْتَحَنُ، إِنَّمَا يُحَدِّدُ ذَلِكَ اللهُ تعالى المُخْتَبِرُ خَلْقَهُ وَعَبِيدَهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾. مَتَى وَأَيْنَ؟ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللهُ تعالى، فَيَخْتَبِرُ في الوَقْتِ الذي يُرِيدُ، وَبِالنَّوْعِ الذي يُرِيدُ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
وَمَنِ اسْتَعْجَلَ الفِتْنَةَ وَطَلَبَهَا وَكَلَهُ اللهُ تعالى إلى نَفْسِهِ، وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَلِهَذَا حَذَّرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَمَنِّي البَلَاءِ وَالفِتْنَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ» رواه الإمام البخاري عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
بَلْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ طَلَبَ مِنَّا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْأَلَ اللهَ العَافِيَةَ، روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ».
وَهَذَا مَا جَسَّدَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الطَّائِفِ، إِذْ قَالَ في دُعَائِهِ: «إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك أَوْسَعُ لِي» رواه الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ وَمَرْضَاتَهُ وَالجَنَّةَ مَعَ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ فَعَلَيْهِ بِالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَعَنِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَالرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ تعالى وَقَدَرِهِ وَلَو كَانَ مُرَّاً.
عَلَى مَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ الصَّبْرُ عَلَى المَصَائِبِ، وَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِمَّنْ غَفَلَ عَنِ اللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَخَاصَّةً عِنْدَمَا يَبْتَلِيهِ اللهُ تعالى، وَلْيَسْتَحْضِرِ المُؤْمِنُ في سَاعَةِ الابْتِلَاءِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمَاً حَكِيمَاً﴾.
شَتَّانَ بَيْنَ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا المُؤْمِنُ فَتَرْفَعُ دَرَجَاتِهِ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَبَيْنَ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا العَبْدُ الفَاجِرُ فَتَكُونُ كَمُقَدِّمَةٍ للعُقُوبَاتِ التي سَتَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتعالى، فَالمُصِيبَةُ التي يُصَابُ بِهَا المُؤْمِنُ كَفَّارَةٌ لَهُ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا، وَأَمَّا المُصِيبَةُ التي يُصَابُ بِهَا الفَاجِرُ فَهِيَ بَشَائِرُ انْتِقَامٍ عَاجِلٍ مَعَ مَا ادُّخِرَ لَهُ في الآجِلِ.
في الخِتَامِ، أَيُّهَا المُؤْمِنُ، كُنْ عَلَى يَقِينٍ أَنَّكَ سَتُبْتَلَى في الوَقْتِ الذي يُرِيدُهُ مَوْلَاكَ، لَا في الوَقْتِ الذي تُرِيدُهُ، وَسَلِ اللهَ العَافِيَةَ دَائِمَاً.
أَيُّهَا المُؤْمِنُ، تَوَقَّعِ البَلَاءَ في أَيِّ لَحْظَةٍ مِنَ لَحَظَاتِ السَّرَّاءِ أَو الضَّرَّاءِ، فَالابْتِلَاءَاتُ تَتَشَكَّلُ وَتَتَنَوَّعُ، وَلَا يَفْقَهُهَا وَلَا يَعْلَمُهَا إِلَّا أُولُو الأَبْصَارِ، وَأَصْحَابُ العُقُولِ، أَمَا قَرَأْتَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَمَا أَخْبَرَنَا عَنْ قَوْلِ سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا رأَى عَرْشَ بِلْقِيسَ أَمَامَهُ: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾.
فَقُلْ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُ دَائِمَاً وَأَبَدَاً: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَمِنَ الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلَاءِ، وَمِنَ الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضَاءِ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأحد: 1/ جمادى الآخرة /1441هـ، الموافق: 26/ كانون الثاني / 2020م
ارسل إلى صديق |
مَاذَا يَقُولُ الإِنْسَانُ المُسْلِمُ، وَمَاذَا يَفْعَلُ وَالمَجَازِرُ الدَّمَوِيَّةُ تُرْتَكَبُ عَلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ وَفي غَزَّةَ خَاصَّةً شَمَلَتِ الشُّيُوخَ وَالنِّسَاءَ وَالأَطْفَالَ الضُّعَفَاءَ وَالآمِنِينَ، وَالعَالَمُ كُلُّهُ ... المزيد
مَا أَجْمَلَ شَهْرَ الرَّبِيعِ الذي وُلِدَ فِيهِ الحَبِيبُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟! حَيْثُ إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يُذَكِّرُنَا بِفَصْلِ الرَّبِيعِ الذي فِيهِ تَتَفَتَّحُ الأَزْهَارُ، وَتُغَرِّدُ ... المزيد
التَّشَاؤُمُ وَالتَّطَيُّرُ مِنَ الصِّفَاتِ المَذْمُومَةِ، وَالأَخْلَاقِ اللَّئِيمَةِ، وَلَا يَصْدُرَانِ إِلَّا مِنَ النُّفُوسِ المُسْتَكِينَةِ، لِمُنَافَاةِ ذَلِكَ للتَّوَكُّلِ وَاليَقِينِ، فَهُمَا مِنْ سِمَاتِ الكُسَالَى وَالبَطَّالِينَ، ... المزيد
انْقَضَى عَامٌ هِجْرِيٌّ مِنْ حَيَاتِنَا، وَلَا نَدْرِي مَاذَا كَانَ في صَفَحَاتِ العَامِ المُنْصَرِمِ، هَلْ سَوَّدْنَا تِلْكَ الصَّفَحَاتِ بِسُوءِ أَعْمَالِنَا، أَمْ بَيَّضْنَاهَا بِصَالِحِ طَاعَاتِنَا وَقُرُبَاتِنَا؟ الحَقُّ يُقَالُ: نُفُوسُنَا ... المزيد
إِنَّ إِخْوَانَكُمْ في هَذِهِ الأَيَّامِ المُبَارَكَةِ قَدْ أَحْرَمُوا للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَصَدُوا بَيْتَ اللهِ الحَرَامَ، وَمَلَؤُوا الفَضَاءَ بِالتَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّعْظِيمِ، مُسْتَجِيبِينِ في ذَلِكَ نِدَاءَ ... المزيد
إِنَّ الحَجَّ إلى بَيْتِ اللهِ تعالى الحَرَامِ مِنْ أَعْظَمِ الفَرَائِضِ التي فَرَضَهَا اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ تَبَارَكَ وتعالى بِهِمْ أَنْ أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مَرَّةً وَاحِدَةً في العُمُرِ، مُقَيَّدًا ... المزيد