44ـ بعث الخلائق والأدلة عليه

44ـ بعث الخلائق والأدلة عليه

44ـ بعث الخلائق والأدلة عليه

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

بَعْثُ الخَلَائِقِ وَالأَدِلَّةُ عَلَيْهِ:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾.

إِنَّ مِنْ أُصُولِ الاعْتِقَادَاتِ الإِيمَانِيَّةِ: الاعْتِقَادَ الجَازِمَ بِأَنَّ اللهَ تعالى يَبْعَثُ الخَلَائِقَ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَيَجْمَعُ أَجْزَاءَهَا بَعْدَ تَفَرُّقِهَا، وَيُعِيدُ إِلَيْهَا أَرْوَاحَهَا بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا، وَيُعِيدُهَا كَمَا بَدَأَهَا.

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾.

فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُعِيدُ هَذَا الخَلْقَ بِجَوَاهِرِهِ؛ بَلْ وَأَعْرَاضِهِ عَلَى المُعْتَمَدِ كَمَا بَدَأَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلَيْسَ في هَذَا شَيْءٌ مِنَ المُحَالَاتِ العَقْلِيَّةِ، وَلَا المُنَاقَضَاتِ الفِكْرِيَّةِ.

وَذَلِكَ أَنَّ العَاقِلَ إِذَا أَتْبَعَ نَظَرَاتِهِ العَابِرَةَ في العَالَمِ الإِنْسَانِيِّ، وَتَكْوِينَاتِهِ الخَلْقِيَّةِ، وَتَطَوُّرَاتِهِ وَتَقَلُّبَاتِهِ في تِلْكَ الأَدْوَارِ، وَتَغَيُّرَاتِهِ في تِلْكَ الأَطْوَارِ، وَهَكَذَا أَجَالَ نَظَرَهُ في عَالَمِ النَّبَاتِ، وَانْفِلَاقِ تِلْكَ النَّوَاةِ الدَّفِينَةِ في بَطْنِ الأَرْضِ بِقُدْرَةِ البَارِي تعالى عَنْ شَجَرَتِهَا وَفُرُوعِهَا، وَأَغْصَانِهَا وَثَمَرَاتِهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَتَنَقَّلُ في عَجَائِبِ الأَرْضِ، وَعَظَمَةِ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ المُبْدَعَاتِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تَتَجَلَّى لَهُ حَقَائِقُ قُدْرَةِ البَارِي تعالى، وَيُشَاهِدُ آيَاتِ إِبْدَاعِهِ وَخَلْقِهِ، وَيَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى بَدْءِ الخَلْقِ لَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِمْ بِلَا رَيْبٍ.

وَلَقَدْ جَاءَ القُرْآنُ العَظِيمُ بِطُرُقٍ وَاضِحَةٍ، تُثْبِتُ أَمْرَ المَعَادِ الجِسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ؛ أَلَا وَهِيَ: طَرِيقَةُ البُرْهَانِ، وَطَرِيقَةُ العِيَانِ، وَلَيْسَ بَعْدَ البُرْهَانِ وَالعِيَانِ مِنْ دَلِيلٍ وَتِبْيَانٍ، وَتِلْكَ الحُجَجُ القُرْآنِيَّةُ هِيَ المَحَجَّةُ البَيْضَاءُ التي لَا تَعْشُو فِيهَا الأَبْصَارُ، وَلَا تَخْتَبِطُ فِيهَا العُقُولُ وَالأَفْكَارُ، وَنَحْنُ نَأْتِي بِجَانِبٍ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى فَنَقُولُ:

الطَّرِيقَةُ الأُولَى: النَّظَرُ في الآيَاتِ الآفَاقِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾.

إِذَا أَمْعَنَ القَارِئُ في هَذِهِ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ، وَتَدَبَّرَ مَا فِيهَا:

يَتَّضِحُ لَهُ وَجْهُ المُنَاسَبَاتِ الحَكِيمَةِ، وَأَنَّهَا كُلَّهَا بَرَاهِينُ قَطْعِيَّةٌ، وَأَدِلَّةٌ عِيَانِيَّةٌ شَاهِدَةٌ عَلى أَنَّ الإِعَادَةَ حَقٌّ، وَأَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَذَلِكَ أَنَّ للإِعَادَةِ أَشْبَاهًا وَنَظَائِرَ يَتَقَلَّبُونَ فِيهَا، وَيُشَاهِدُونَهَا بِأَعْيُنِهِمْ، فَعَلَامَ يَعْجَبُ الجَاحِدُونَ وَيُنْكِرُ المُنْكِرُونَ؟!!

﴿فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾.

اسْتَبْعَدُوا الرَّجْعَةَ بَعْدَ المَوْتِ، وتَفَرُّقِ الأَجْزَاءِ وَبِلَاهَا، فَجَاءَهُمُ الجَوَابُ: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾.

وَذَلِكَ أَنَّ مَا تَأْكُلُهُ الأَرْضُ مِنْ أَجْزَائِهِمْ، مَعْلُومٌ عِنْدَ اللهِ تعالى لَا يَغِيبُ مَهْمَا تَبَاعَدَتْ وَتَفَرَّقَتْ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ كُلَّ جُزْءٍ عَمَّنِ انْفَصَلَ، وَبِمَنْ كَانَ اتَّصَلَ، وَإِنَّ تِلْكَ الأَجْزَاءَ كُلَّهَا مَحْفُوظَةٌ في كِتَابٍ جَمَعَهَا كُلَّهَا، فَهِيَ وَإِنْ غَابَتْ عَنْ أَبْصَارِ أَهْلِ الدُّنْيَا لَكِنَّهَا مَحْفُوظَةٌ في ذَلِكَ الكِتَابِ الذي عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ، بِذَوَاتِهَا وَذَرَّاتِهَا.

فَإِنِ اسْتَبْعَدُوا ذَلكَ بِالنِّسْبَةِ للقُدْرَةِ، فَهَذِهِ السَّمَاوَاتُ أَكْبَرُ خَلْقًا مِنْهُمْ وَأَشَدُّ.

فَإِنْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الإِعَادَةَ لَيْسَتْ أَكْبَرَ مِنَ البَدْءِ، فَالذي قَدَرَ عَلَى البَدْءِ يَقْدِرُ عَلَى الإِعَادَةِ.

وَإِنْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الإِعَادَةَ أكْبَرُ مِنَ البَدْءِ وَأَعْظَمُ، فَلَقَدْ خَلَقَ اللهُ سُبْحَانَهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمْ وَأَشَدُّ خَلْقًا مِنْهُمْ، وَهِيَ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ المَشْهُودَةُ لَدَيْهِمْ بِأَعْيُنِهِمْ، وَإلى هَذَا يُرْشُدُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾. وَهِيَ الجِبَالُ التي نَصَبَهَا سُبْحَانَهُ، وَأَوْدَعَ فِيهَا مَا أَوْدَعَ مِنْ خَزَائِنَ وَمَعَادِنَ وَخَصَائِصَ ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً﴾ ـ للمُسْتَبْصِرِينَ ـ ﴿وَذِكْرَى﴾ للمُتَذَكِّرِينَ ـ وَمَا يَتَبَصَّرُ وَيَتَذَكَّرُ إِلَّا كُلُّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَلِذَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾.

ثُمَّ بَيَّنَ اللهُ تعالى في سِيَاقِ الحُجَّةِ عَلَى مُنْكِرِي الإِعَادَةِ بَعْدَ المَوْتِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 2/ رجب /1443هـ، الموافق: 3/ شباط / 2022م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

19-09-2024 713 مشاهدة
64ـ عما ورد من نسبة الذنوب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام (2)

وَأَمَّا مَا وَرَدَ في حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنِ اعْتِذَارِ الخَلِيلِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسَبَبِ الكَذَبَاتِ، فَإِنَّمَا هِيَ كَذَبَاتٌ صُورَةً لَا حَقِيقَةً، لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ المَعَارِيضِ، وَقَدْ جَاءَ ... المزيد

 19-09-2024
 
 713
10-09-2024 720 مشاهدة
63ـ عما ورد من نسبة الذنوب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام

يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا): الوَجْهُ الثَّانِي: في الجَوَابِ عَمَّا وَرَدَ مِنْ نِسْبَةِ الذُّنُوبِ للأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ ... المزيد

 10-09-2024
 
 720
15-08-2024 613 مشاهدة
62ـ حول أحاديث الشفاعة

أَوَّلًا: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فِيهِ إِعْلَانٌ بِمَقَامِ سِيَادَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإِعْلَامٌ لِجَمِيعِ ... المزيد

 15-08-2024
 
 613
25-07-2024 836 مشاهدة
61ـ الشفاعة وأنواعها

الشَّفَاعَةُ كَمَا قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: هِيَ انْضِمَامُ الأَدْنَى ـ أَيْ: لُجُوءُهُ وَقَصْدُهُ ـ إلى الأَعْلَى، لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مَا يَرُومُهُ، أَيْ: في جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنِ المَشْفُوعِ بِهِ. وَالشَّفَاعَةُ ... المزيد

 25-07-2024
 
 836
11-01-2024 985 مشاهدة
60ـ يستقبل أمته على الحوض

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ أُمَّتَهُ عَلَى الحَوْضِ وَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ: ... المزيد

 11-01-2024
 
 985
29-12-2023 952 مشاهدة
59ـ ينتظر الواردين من أمته

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ، ... المزيد

 29-12-2023
 
 952

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5703
المقالات 3252
المكتبة الصوتية 4881
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 428029164
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :