كلمة شهر جمادى الأولى 1444
195ـ لا يكن إيمانك إيمان هوى
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ أَرْكَانِ الإِيمَانِ، الإِيمَانُ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ، وَالرِّضَا عَنِ اللهِ تعالى بِأَحْكَامِهِ، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فِيمَا يَبْدُو ذَلِكَ.
أَمَّا الرِّضَا عَنِ اللهِ تعالى في عَطَائِهِ دُونَ مَنْعِهِ، وَفي رَفْعِهِ دُونَ خَفْضِهِ، وَفي تَوْسِيعِهِ دُونَ تَقْتِيرِهِ، وَعِنْدَ مُوَافَقَةِ رَغَبَاتِكَ دُونَ مُخَالَفَتِهَا، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ المُؤْمِنِ الصَّادِقِ الكَامِلِ في إِيمَانِهِ.
هُنَاكَ أَقْوَامٌ رَضُوا عَنْ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ في الرَّخَاءِ، وَسَخِطُوا في البَلَاءِ، وَانْقَادُوا لِأَوَامِرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في النِّعْمَةِ، وَعَانَدُوا وَأَعْرَضُوا وَاشْمَأَزُّوا وَقْتَ النِّقْمَةِ، هَؤُلَاءِ انْطَبَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.
لَا يَكُنْ إِيمَانُكَ إِيمَانَ هَوًى:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ الأَعْرَابُ يُسْلِمُونَ، فَإِذَا وَجَدُوا رَغَدَ العَيْشِ، وَنُزُولَ الغَيْثِ، وَسَعَةَ الرِّزْقِ، قَالُوا: هَذَا دِينُ حَقٍّ وَخَيْرٍ وَنِعْمَةٍ وَبَرَكَةٍ، وَانْقَادُوا لِأَحْكَامِهِ، وَإِنْ وَجَدُوا غَيْرَ ذَلِكَ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَكَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، وَتَرَكُوا دِينَهُمْ.
هَذَا الإِيمَانُ وَالإِسْلَامُ إيمَانُ هَوًى، وَرَغْبَةُ نَفْسٍ، وَإِيمَانُ مَصْلَحَةٍ، هَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ اللهَ تعالى عَلَى حَرْفٍ، كَمَا قَالَ تعالى، هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ دُنْيَا فَقَطْ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ يَقُولُ صَبَاحًا وَمَسَاءً: رَضِيتُ بِاللهِ تعالى رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا، عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى بِقَضَاءِ اللهِ تعالى وَقَدَرِهِ، وَأَنْ يَسْتَسْلِمَ لِمُرَادِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُظْهِرَ العُبُودِيَّةَ الحَقَّةَ وَالمُطْلَقَةَ في سَاعَاتِ الشَّدَائِدِ، حَتَّى يُتَرْجِمَ عَنْ صِدْقِهِ بِأَنَّهُ يُرِيدُ مَا عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُرِيدُ وَجْهَهُ تَبَارَكَ وتعالى، وَيَسْعَى للآخِرَةِ، وَيَجْعَلُ هَمَّهُ رِضَا مَوْلَاهُ عَنْهُ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الرِّضَا عَنِ اللهِ تعالى هُوَ البَوَّابَةُ الكُبْرَى لِنَيْلِ رِضَا اللهِ تعالى، هُوَ البَوَّابَةُ الكُبْرَى لِجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالرَّاضِي عَنِ اللهِ تعالى في قَضَائِهِ وَإِنْ كَانَ مُرًّا لَا يَقْبَلُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا بَدَلًا عَنْ رِضْوَانِ اللهِ تعالى، وَلَا عِوَضًا عَنْ نَعِيمِ الجَنَّةِ بِمَعِيَّةِ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ، فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ.
فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَبْيًا، فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
قَالُوا: قِسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
قَالَ: «قَسَمْتُهُ لَكَ».
قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا ـ وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ ـ فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ.
فَقَالَ: «إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ».
فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَهُوَ هُوَ؟».
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: «صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ».
ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي جُبَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ».
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ الكِرَامَ عَلَى هَذَا المُسْتَوَى، فَجَعَلَ هَمَّهُمْ رِضَا اللهِ تعالى، وَالآخِرَةَ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، وَكُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ عَلَى: «أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ، فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمْ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَكُمْ».
لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعِدُ أَصْحَابَهُ إِنْ أَطَاعُوهُ بِالجَنَّةِ، مَا كَانَ يَعِدُهُمْ بِدُنْيَا فَانِيَةٍ، لِأَنَّ الدُّنْيَا الفَانِيَةَ لَا تُكَافِئُ العَبْدَ الذي أَطَاعَ اللهَ تعالى، وَأَطَاعَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ».
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَمِنَ الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلَاءِ، وَمِنَ الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضَاءِ، وَاجْعَلْ هَمَّنَا رِضَاكَ وَالآخِرَةَ، وَأَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الجمعة: 1/جمادى الأولى /1444هـ، الموافق: 25/ تشرين الثاني / 2022م
الإِنْسَانُ خُلِقَ لِلْجَنَّةِ، وَالجَنَّةُ خُلِقَتْ لَهُ، وَالجَنَّةُ هِيَ سِلْعَةٌ، وَسِلْعَةُ اللهِ غَالِيَةٌ، وَثَمَنُهَا فِي الدُّنْيَا؛ فَمَا هُوَ ثَمَنُ الجَنَّةِ؟ ثَمَنُ الجَنَّةِ هُوَ العِبَادَةُ للهِ تعالى، وَالإِسْلَامُ عَقَائِدُ ... المزيد
الظَّوَاهِرُ القَبِيحَةُ فِي المُجْتَمَعِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ أَقْبَحَهَا وَأَخْطَرَهَا ظَاهِرَةُ الكَذِبِ، هَذِهِ الظَّاهِرَةُ الَّتِي قَالَ عَنْهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ ... المزيد
أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَسْبَغَهَا اللهُ تعالى عَلَى عَبْدِهِ هِيَ نِعْمَةُ الإِيمَانِ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ تعالى مَا نَطَقَ بِهَا العَبْدُ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ ... المزيد
هُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَسْبَغَهَا اللهُ تعالى عَلَى خَلْقِهِ قَدْ لَا يَنْتَفِعُ العَبْدُ مِنْهَا، قَدْ يُعْطِيكَ اللهُ تعالى نِعْمَةَ المَالِ فَلَا تَنْتَفِعُ مِنْهُ، وَقَدْ يُعْطِيكَ نِعْمَةَ الجَاهِ وَلَا تَنْتَفِعُ مِنْهَا، ... المزيد
هَا نَحْنُ في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، شَهْرِ المَوْلِدِ الشَّرِيفِ، حَيْثُ يَحْتَفِلُ المُسْلِمُونَ في بُيُوتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفي بُيُوتِهِمْ، وَيَجْمَعُونَ النَّاسَ عَلَى الإِنْشَادِ وَالمَدِيحِ، وَتَوْزِيعِ الحَلْوَى، وَجَعْلِ المَوَائِدِ؛ ... المزيد
مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا فَلَنْ يَحْزَنَ، خُلِقَتِ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا مَمْزُوجٌ بِالأَكْدَارِ، فَكَيْفَ بِأَكْدَارِهَا؟! قَالَ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ ... المزيد