190ـ سيروا إلى الله في سائر أحوالكم

190ـ سيروا إلى الله في سائر أحوالكم

كلمة شهر ذي الحجة 1443

190ـ سيروا إلى الله في سائر أحوالكم

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سِيرُوا إلى اللهِ تعالى في سَائِرِ أَحْوَالِكُمْ، وَلَا تَنْتَظِرُوا حَالًا دُونَ حَالٍ، سِيرُوا إلى اللهِ عُرْجًا ومَكَاسيرَ، وَلَا تَنْتَظِرُوا الصِّحَّةَ وَالفَرَاغَ، فَإِنَّ انْتِظَارَ الصِّحَّةِ بَطَالَةٌ، وَانْتِظَارَ الأَمْنِ بَطَالَةٌ، وَانْتِظَارَ الغِنَى بَطَالَةٌ، فَالعَاقِلُ مَنْ بَادَرَ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَخَاصَّةً فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَيَّامِ العَشْرِ، وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

وَكُنْ صَارِمًا كَـالـوَقْـتِ، فَـالمَقْـتُ فِي عَـسَـى    ***   وَإيَّـاكَ عَــــلَّا فَـــهِـيَ أَخْـطَـرُ عِــلَّــةِ

وَسِـرْ زَمَـنـًا، وَانهَـضْ كَـسِـيرًا، فَــحَظُّكَ الـ    ***   بِطَالَةُ مَـا أَخَّـرْتَ عَـزْمًـا لِـصِــحَّـــــةِ

وَجُــذَّ بِــسَيْفِ الــعَزْمِ سَوْفَ فَـــإنْ تَــــجُــدْ ***    تَجِدْ نَــفَـسًـا فَالـنَّفْسُ إِنْ جُـدْتَ جَدَّتِ

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَنْ تَتَبَّعَ أَحْوَالَ نَفْسِهِ وَأَحْوَالَ النَّاسِ، وَتَأَمَّلَ فِيهَا، وَعَرَفَ كَيْفَ يَقْضُونَ أَوْقَاتَهُمْ، وَكَيْفَ يُمْضُونَ أَعْمَارَهُمْ، عَلِمَ أَنَّ الخَلْقَ مُضَيِّعُونَ لِأَوْقَاتِهِمْ، مَحْرُومُونَ نِعْمَةَ اغْتِنَامِ العُمُرِ، وَاغْتِنَامِ الوَقْتِ، وَلِذَا نَرَاهُمْ يُنْفِقُونَ أَوْقَاتَهُمْ، وَيَهْدِرُونَ أَعْمَارَهُمْ، فِيمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِنَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ وَلَا أُخْرَوِيٍّ.

وَإِنَّ المَرْءَ لَيَعْجَبُ مِنْ فَرَحِ هَؤُلَاءِ بِمُرُورِ الأَيَّامِ، وَسُرُورِهِمْ بِانْقِضَائِهَا، نَاسِينَ أَنَّ كُلَّ دَقِيقَةٍ، بَلْ كُلَّ لَحْظَةٍ تَمْضِي مِنْ عُمُرِهِمْ تُقَرِّبُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَالآخِرَةِ، وَتُبَاعِدُهُمْ عَنِ الدُّنْيَا.

إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالأَيَّامِ نَقْطَعُهَا   ***   وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى جُزْءٌ مِنَ العُمُرِ

قِيمَةُ الوَقْتِ وَأَهَمِّيَّتُهُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا عَرَفَ الإِنْسَانُ قِيمَةَ شَيْءٍ مَا، وَأَهَمِّيَّتَهُ حَرَصَ عَلَيْهِ، وَعَزَّ عَلَيْهِ ضَيَاعُهُ وَفَوَاتُهُ؛ وَالإِنْسَانُ المُؤْمِنُ إِذَا أَدْرَكَ قِيمَةَ وَأَهَمِّيَّةَ الوَقْتِ كَانَ أَكْثَرَ حِرْصًا عَلَى حِفْظِهِ وَاغْتِنَامِهِ فِيمَا يُقَرِّبُهُ مِنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وتعالى.

يَقُولُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَقْتُ الإِنْسَانِ هُوَ عُمُرُهُ في الحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ الأَبَدِيَّةِ في النَّعِيمِ المُقِيمِ، وَمَادَّةُ مَعِيشَتِهِ الضَّنْكِ في العَذَابِ الأَلِيمِ وَهُوَ يَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، فَمَا كَانَ مِنْ وَقْتٍ للهِ وَبِاللهِ فَهُوَ حَيَاتُهُ وَعُمُرُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَيْسَ مَحْسُوبًا مِنْ حَيَاتِهِ، وَإِنْ عَاشَ فِيهِ عَيْشَ البَهَائِمِ، فَإِذَا قَطَعَ وَقْتَهُ في الغَفْلَةِ وَاللَّهْوِ وَالأَمَانِي البَاطِلَةِ، وَكَانَ خَيْرَ مَا قَطَعَهُ بِهِ النَّوْمُ وَالبَطَالَةُ، فَمَوْتُ هَذَا خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ.

وَلِأَهَمِّيَّةِ الوَقْتِ في شَرْعِنَا، فَقَدْ أَقْسَمَ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ في مَطَالِعِ سُوَرٍ عَدِيدَةٍ بِأَجْزَاءٍ مِنْهُ، مِثْلُ اللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَالفَجْرِ، وَالضُّحَى، وَالعَصْرِ، قَالَ تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَا يُقْسِمُ إِلَّا بِعَظِيمٍ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قُولُوا لِمَنْ يُضَيِّعُ وَقْتَهُ بِدُونِ اغْتِنَامٍ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ هَلْ سَمِعْتَ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» رَوَاهُ التّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الوَقْتُ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى خَلْقِهِ، وَلَا بُدَّ للعَبْدِ مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَإِلَّا سُلِبَتْ وَذَهَبَتْ، وَشُكْرُ نِعْمَةِ الوَقْتِ يَكُونُ بِاغْتِنَامهَا في الطَّاعَاتِ، وَاسْتِثْمَارِهَا في البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَخَاصَّةً في أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ، حَيْثُ يَقُولُ فِيهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ».

فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مَا خَلَقَنَا اللهُ تعالى عَبَثًا، خَلَقَنَا للعِمَلِ، وَالعَمَلُ المَطْلُوبُ هُوَ العَمَلُ الصَّالِحُ الذي أَمَرَ اللهُ تعالى بِهِ الرُّسُلَ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾.

وَهُوَ خَيْرُ زَادٍ يَتَزَوَّدُهُ الإِنْسَانُ، وَخَيْرُ لِبَاسٍ يَتَزَيَّنُ بِهِ، وَهُوَ النَّجَاةُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهُوَ الذي تُحْفَظُ بِهِ الأَوْقَاتُ، وَتَدُومُ بِهِ الطَّاعَاتُ، وَتَتَضَاعَفُ بِهِ الحَسَنَاتُ، وَتُغْفَرُ بِهِ السَّيِّئَاتُ، وَتُرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتُ، وَهُوَ الذي يَسْعَدُ بِهِ الإِنْسَانُ وَبِهِ يَفْرَحُ ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. آمين.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 1/ذو الحجة /1443هـ، الموافق: 30/ حزيران / 2022م

 2022-07-06
 662
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

06-04-2025 104 مشاهدة
224ـ ما أجمل الأتقياء وأكرمهم

مَا أَجْمَلَ الأَتْقِيَاءَ وَأَكْرَمَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، تَآلَفَتْ قُلُوبُهُمْ فِي اللهِ تَعَالَى وَعَلَى طَاعَتِهِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ ... المزيد

 06-04-2025
 
 104
04-03-2025 261 مشاهدة
223ـ اعتبروا الناس بأعمالهم

مَنْ حُجِبَ عَنِ العِلْمِ عَذَّبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى جَهْلِهِ، وَأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ العِلْمُ فَأَدْبَرَ عَنْهُ، وَسَاقَ اللهُ إِلَيْهِ الهُدَى فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ ... المزيد

 04-03-2025
 
 261
08-01-2025 836 مشاهدة
221ـ نموذجان من المسلمين اليوم

الإِنْسَانُ خُلِقَ لِلْجَنَّةِ، وَالجَنَّةُ خُلِقَتْ لَهُ، وَالجَنَّةُ هِيَ سِلْعَةٌ، وَسِلْعَةُ اللهِ غَالِيَةٌ، وَثَمَنُهَا فِي الدُّنْيَا؛ فَمَا هُوَ ثَمَنُ الجَنَّةِ؟ ثَمَنُ الجَنَّةِ هُوَ العِبَادَةُ للهِ تعالى، وَالإِسْلَامُ عَقَائِدُ ... المزيد

 08-01-2025
 
 836
08-01-2025 491 مشاهدة
220ـ إلا الخيانة والكذب

الظَّوَاهِرُ القَبِيحَةُ فِي المُجْتَمَعِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ أَقْبَحَهَا وَأَخْطَرَهَا ظَاهِرَةُ الكَذِبِ، هَذِهِ الظَّاهِرَةُ الَّتِي قَالَ عَنْهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ ... المزيد

 08-01-2025
 
 491
08-01-2025 406 مشاهدة
219ـ نعمة الإيمان وأثرها على العبد

أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَسْبَغَهَا اللهُ تعالى عَلَى عَبْدِهِ هِيَ نِعْمَةُ الإِيمَانِ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ تعالى مَا نَطَقَ بِهَا العَبْدُ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ ... المزيد

 08-01-2025
 
 406
08-01-2025 500 مشاهدة
218ـ كن محافظًا على أعظم نعمة أسبغها الله عليك

هُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَسْبَغَهَا اللهُ تعالى عَلَى خَلْقِهِ قَدْ لَا يَنْتَفِعُ العَبْدُ مِنْهَا، قَدْ يُعْطِيكَ اللهُ تعالى نِعْمَةَ المَالِ فَلَا تَنْتَفِعُ مِنْهُ، وَقَدْ يُعْطِيكَ نِعْمَةَ الجَاهِ وَلَا تَنْتَفِعُ مِنْهَا، ... المزيد

 08-01-2025
 
 500

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5679
المقالات 3209
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 422661624
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :