كلمة شهر ذي الحجة 1444
202ـ حنين القلوب لزيارة بيت الله الحرام
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ إِخْوَانَكُمْ في هَذِهِ الأَيَّامِ المُبَارَكَةِ قَدْ أَحْرَمُوا للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَصَدُوا بَيْتَ اللهِ الحَرَامَ، وَمَلَؤُوا الفَضَاءَ بِالتَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّعْظِيمِ، مُسْتَجِيبِينِ في ذَلِكَ نِدَاءَ رَبِّ العَالَمِينَ، نِدَاءَ اللهِ تعالى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ وَخَلِيلِهِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى حَضْرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ لَمَّا انْتَهَى سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَيِّدُنَا إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ بِنَاءِ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ، أَمَرَ اللهُ تعالى خَلِيلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُؤَذِّنَ في النَّاسِ بِالحَجِّ، قَالَ تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾.
رَوَى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ: رَبِّ قَدْ فَرَغْتُ.
فَقَالَ: «أَذِّنِ فِي النَّاسَ بِالْحَجِّ».
قَالَ: رَبِّ، وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟
قَالَ: «أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ».
قَالَ: رَبِّ كَيْفَ أَقُولُ؟
قَالَ: قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ، حَجُّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ؛ فَسَمِعَهُ مَنْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ؟ اهـ.
فَيُقَالُ: إِنَّ الجِبَالَ تَوَاضَعَتْ حَتَّى بَلَغَ صَوْتُهُ أَرْجَاءَ الأَرْضِ، فَأَجَابَهُ مَنْ كُتِبَ لَهُ الحَجُّ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ.
حَنِينُ القُلُوبِ لِزِيَارَةِ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كُلَّمَا دَخَلَ شَهْرُ ذِي الحِجَّةِ تَحَرَّكَتِ القُلُوبُ وَحَنَّتْ لِزِيَارَةِ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ، وَهَاجَتِ المَشَاعِرُ، وَكُلَّمَا هَبَّ نَسِيمُ الرَّحِيلِ إلى بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَبَدَأَتِ الوُفُودُ بِالسَّفَرِ وَالرَّحِيلِ، وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُ المُلَبِّينَ، حَنَّتِ القُلُوبُ، وَاقْشَعَرَّتِ الجُلُودُ، وَذَرَفَتِ العُيُونُ شَوْقًا إلى بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، لَقَدْ سَارُوا وَقَعَدْنَا، وَقَرُبُوا وَبَعُدْنَا، فَإِنْ كَانَ لَنَا مَعَهُمْ نَصِيبٌ سَعِدْنَا بِإِذْنِ اللهِ تعالى، وَكَيْفَ لَا، وَقَدْ قَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَرَحِمَ اللهُ مَنْ قَالَ:
يَـا رَاحِلِينَ إلى البَيْتِ العَتِيقِ لَـقَدْ *** سِرْتُمْ جُسُومًا وَسِرْنَا نَحْنُ أَرْوَاحَا
إِنَّــا أَقَـمْنَا عَـلَى عُذْرٍ وَعَـنْ قَدَرٍ *** وَمَـنْ أَقَــامَ عَلَى عُذْرٍ فَقَـدْ رَاحَــا
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحَجُّ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ العَظِيمَةِ، شَرَعَهَا اللهُ تعالى لِسَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَبَيَّنَ لَنَا مَنَاسِكَهَا حَضْرَةُ سَيِّدِنَا الرَّسُولِ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ بَيْتَ اللهِ تعالى الحَرَامَ هُوَ مَنْبَعُ الإِسْلَامِ، وَمَنَارَةُ التَّوْحِيدِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَحْنُ عَلَى إِرْثٍ عَظِيمٍ مِنْ إِرْثِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ شَيْبَانَ قَالَ: أَتَانَا ابْنُ مِرْبَعٍ الأَنْصَارِيُّ وَنَحْنُ وُقُوفٌ بِالمَوْقِفِ مَكَانًا يُبَاعِدُهُ عَمْرٌو، فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ يَقُولُ: «كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ إِبْرَاهِيمَ».
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الفَوَائِدِ التي نَجْنِيهَا في هَذِهِ الأَيَّامِ، وَجُوبَ الاتِّبَاعِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَخَاصَّةً في العِبَادَاتِ وَالأَخْلَاقِ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَلَا تَصِحُّ العِبَادَةُ إِلَّا بِالاتِّبَاعِ، وَلَا تَكْتَمِلُ ثِمَارُهَا إِلَّا بِالأَخْلَاقِ، يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
هَنِيئًا لَكُمْ يَا حُجَّاجَ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ قَوْلُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ لَا تَضَعْ نَاقَتُكَ خُفًّا، وَلَا تَرْفَعُهُ إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَكَ بِهِ حَسَنَةً وَمَحَا عَنْكَ خَطِيئَةً، وَأَمَّا رَكْعَتَاكَ بَعْدَ الطَّوَافِ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَعِتْقِ سَبْعِينَ رَقَبَةً، وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ يَقُولُ: عِبَادِي جَاؤُونِي شُعْثًا مِنْ كِلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ، أَوْ كَقَطْرِ الْمَطَرِ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ لَغَفَرَهَا، أَوْ لَغَفَرْتُهَا، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ، وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارَ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ رَمَيْتَهَا كَبِيرَةٌ مِنَ الْمُوبِقَاتِ، وَأَمَّا نَحْرُكَ فَمَذْخُورٌ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ، وَأَمَّا حِلاقُكَ رَأْسَكَ فَلَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَلَقْتَهَا حَسَنَةٌ، وَيُمْحَى عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةٌ، وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَطُوفُ، وَلَا ذَنْبَ لَكَ يَأْتِيَ مَلَكٌ حَتَّى يَضَعَ يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْكَ فَيَقُولُ: اعْمَلْ فِيمَا تَسْتَقْبِلُ فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى».
أَسْأَلُ اللهَ العَلِيَّ القَدِيرَ أَنْ يُكْرِمَ حُجَّاجَ بَيْتِهِ بِالحَجِّ المَبْرُورِ، وَالذَّنْبِ المَغْفُورِ، وَالسَّعْيِ المَشْكُورِ، وَأَنْ يَذْكُرُونَا بِصَالِحِ دُعَائِهِمْ. آمين.
اللَّهُمَّ بَلِّغْنَا زِيَارَةَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الاثنين: 1/ذو الحجة /1444هـ، الموافق: 19/ حزيران / 2023م
ارسل إلى صديق |
هَا نَحْنُ في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، شَهْرِ المَوْلِدِ الشَّرِيفِ، حَيْثُ يَحْتَفِلُ المُسْلِمُونَ في بُيُوتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفي بُيُوتِهِمْ، وَيَجْمَعُونَ النَّاسَ عَلَى الإِنْشَادِ وَالمَدِيحِ، وَتَوْزِيعِ الحَلْوَى، وَجَعْلِ المَوَائِدِ؛ ... المزيد
مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا فَلَنْ يَحْزَنَ، خُلِقَتِ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا مَمْزُوجٌ بِالأَكْدَارِ، فَكَيْفَ بِأَكْدَارِهَا؟! قَالَ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ ... المزيد
الرِّفْقُ وَاللِّينُ مَا وُجِدَا في شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا فُقِدَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، فَاللِّينُ في الكَلَامِ وَالْتِزَامُ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾. وَقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا ... المزيد
هَذِهِ أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ قَدْ أَقْبَلَتْ، فَاسْمَعُوا إلى هَدْيِ حَبِيبِكُمُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى ... المزيد
إِنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ مَحْدُودَةُ الآجَالِ، وَأَيَّامَهُ وَلَيَالِيَهُ تَمْضِي سَرِيعَةً إلى الزَّوَالِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا ... المزيد
هَا هُوَ يَوْمُ العِيدِ قَدْ جَاءَ بَعْدَ طَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، بَعْدَ رُكْنٍ عَظِيمٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، كَيْفَ لَا يَأْتِي يَوْمُ عِيدٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ شَهْرٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَتِنَا؟ ... المزيد