كلمة شهر ربيع الأول 1446
217ـ علامة المحبة
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَا نَحْنُ في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، شَهْرِ المَوْلِدِ الشَّرِيفِ، حَيْثُ يَحْتَفِلُ المُسْلِمُونَ في بُيُوتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفي بُيُوتِهِمْ، وَيَجْمَعُونَ النَّاسَ عَلَى الإِنْشَادِ وَالمَدِيحِ، وَتَوْزِيعِ الحَلْوَى، وَجَعْلِ المَوَائِدِ؛ وَهَذَا شَيْءٌ حَسَنٌ وَطَيِّبٌ، وَفي ظَاهِرِ الأَمْرِ عُنْوَانٌ لِمَحَبَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وَلَكِنَّ الحَقَّ جَلَّ جَلَالُهُ الذي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، يُخَاطِبُ حَبِيبَهُ وَمُصْطَفَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِيَقُولَ لِهَؤُلَاءِ المُحِبِّينَ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِيَضَعْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ في هَذَا المِيزَانِ، وَلْيَتَسَاءَلْ مَعَ نَفْسِهِ: هَلْ أَنَا مُتَّبِعٌ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في جَمِيعِ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَالأَحْوَالِ؟
وَهَلْ أَنَا مُطِيعٌ للهِ تعالى، وَلِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في سَائِرِ الأَحْوَالِ، في المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، في الصِّحَّةِ وَالمَرَضِ، في الفَرَحِ وَالتَّرَحِ، في الأَخْلَاقِ وَالمُعَامَلَاتِ؟
عَلَامَةُ المَحَبَّةِ إِيثَارُ اللهِ تعالى، وَإِيثَارُ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ عَلَامَاتِ صِدْقِ المَحَبَّةِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِيثَارُ رِضَا اللهِ تعالى، وَرِضَا سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى رِضَا الخَلْقِ، وَإِنْ عَظُمَتِ المِحَنُ، وَثَقُلَتِ المُؤَنُ، وَضَعُفَ الطُّولُ وَالبَدَنُ.
وَإِيثَارُ رِضَا اللهِ تعالى وَرِضَا رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي أَنْ نَفْعَلَ مَا يُرْضِي اللهَ تعالى وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ غَضِبَ الخَلْقُ جَمِيعًا.
وَكُلُّ ذَلِكَ تَأَسِّيًا بِصَاحِبِ الذِّكْرَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَادَ العَالَمَ كُلَّهُ، وَتَجَرَّدَ للدَّعْوَةِ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاحْتَمَلَ عَدَاوَةَ البَعِيدِ وَالقَرِيبِ في اللهِ تعالى، وَآثَرَ رِضَا اللهِ تعالى عَلَى رِضَا الخَلْقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَمْ تَأْخُذْهُ في إِيثَارِ رِضَاهُ جَلَّ وَعَلَا لَوْمَةُ لَائِمٍ، بَلْ كَانَ هَمُّهُ وَعَزْمُهُ وَسَعْيُهُ كُلُّهُ مَقْصُورًا عَلَى إِيثَارِ مَرْضَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَاتِهِ، حَتَّى ظَهَرَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دِينُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ رَدِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَادَاتِ قُرَيْشٍ كَمَا جاءَ في كِتَابِ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ: جَاءَتْ سَادَاتُ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّ لَكَ سِنًّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا، وَإنَّا قَدِ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ فَلَمْ تَنْهَهُ عَنَّا، وَإِنَّا وَاللهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا، حَتَّى تَكُفَّهُ عَنَّا، أَوْ نُنَازِلَهُ وَإيَّاكَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى يَهْلِكَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ.
عَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ هَذَا الوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ الشَّدِيدُ، فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهُ: يَابْنَ أَخِي، إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَاؤُونِي فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ.
فَظَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَمَّهُ خَاذِلُهُ، وَأَنَّهُ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ، فَقَالَ: «يَا عَمِّ، وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ في يَمِينِي، وَالقَمَرَ في يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ».
ثُمَّ اسْتَعْبَرَ وَبَكَى، وَقَامَ، فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ، فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ يَابْنَ أَخِي، فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ، فَوَاللهِ لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا؛ وَأَنْشَدَ:
وَاللهِ لَـنْ يَـصِلُوا إِلَيْكَ بِـجَـمْعِهِم *** حَتَّى أُوَسَّدَ فِي الـتُّرابِ دَفِينًا
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَـضَاضَةٌ *** أَبْـشِرْ وَقَـرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيُونًا
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
فَيَا أَيُّهَا المُحِبُّ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَدِّمْ أَوَامِرَ اللهِ تعالى، وَأَوَامِرَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفْسِكَ وَهَوَاكَ، وَعَلَى الآخَرِينَ جَمِيعًا، رَضِيَ مَنْ رَضِيَ وَسَخِطَ مَنْ سَخِطَ، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
وَقَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْخَطَ اللهَ فِي رِضَا النَّاسِ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ، وأَسْخَطَ عَلَيْهِ مَنْ أرضاهُ فِي سَخَطِهِ، وَمَنْ أَرْضَى اللهَ فِي سَخَطِ النَّاسِ رَضِي اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ مَنْ أَسْخَطَهُ فِي رِضَاهُ حَتَّى يُزَيِّنَهُ وَيُزَيِّنَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ فِي عَيْنِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَيَقُولُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: رِضَا النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ، فَعَلَيْكَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِكَ فَالْزَمْهُ.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
فَــلَيْتَكَ تَـحْلُو وَالْحَيَاةُ مَــرِيرَةٌ *** وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَـامِرٌ *** وَبَـيْـنِي وَبَــيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ *** وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُـرَابُ
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأربعاء: 1/ ربيع الأول /1446هـ، الموافق: 4/أيلول / 2024م
ارسل إلى صديق |
مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا فَلَنْ يَحْزَنَ، خُلِقَتِ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا مَمْزُوجٌ بِالأَكْدَارِ، فَكَيْفَ بِأَكْدَارِهَا؟! قَالَ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ ... المزيد
الرِّفْقُ وَاللِّينُ مَا وُجِدَا في شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا فُقِدَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، فَاللِّينُ في الكَلَامِ وَالْتِزَامُ قَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾. وَقَوْلِ اللهِ تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا ... المزيد
هَذِهِ أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ قَدْ أَقْبَلَتْ، فَاسْمَعُوا إلى هَدْيِ حَبِيبِكُمُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى ... المزيد
إِنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ مَحْدُودَةُ الآجَالِ، وَأَيَّامَهُ وَلَيَالِيَهُ تَمْضِي سَرِيعَةً إلى الزَّوَالِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا ... المزيد
هَا هُوَ يَوْمُ العِيدِ قَدْ جَاءَ بَعْدَ طَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، بَعْدَ رُكْنٍ عَظِيمٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ، كَيْفَ لَا يَأْتِي يَوْمُ عِيدٍ بَعْدَ انْتِهَاءِ شَهْرٍ عَظِيمٍ مُبَارَكٍ أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، الذي هُوَ سِرُّ سَعَادَتِنَا؟ ... المزيد
شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ... المزيد