مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
102ـ «يَا بُنَيَّ، وَذلِكَ مِنْ سُنَّتِي»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: مِمَّا لا شَكَّ فيه بأنَّ هذا الاجتِماعَ عُنوانُ مَحَبَّةٍ لِصَاحِبِ الذِّكرى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولولا صِدْقُ المَحَبَّةِ لِسَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ما اجتَمَعنا، لأنَّ هذا الاجتِماعَ لَيسَ اجتِماعاً دُنيَوِيَّاً يُطلَبُ فيه عَرَضٌ من أعراضِ الدُّنيا.
هذا الاجتِماعُ إنَّما يُبتَغَى به مَرضَاةُ الله تعالى، يُبتَغى به القُربُ من سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يُبَتَغى به مِيراثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
ومِمَّا لا شَكَّ فيه بأنَّ أعمَالَنا والَّتي من جُملَتِها هذا الاجتِماعُ تُعرَضُ على سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه البزار بإسنادٍ جَيِّدٍ عن ابن مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لَكُمْ».
وكَيفَ لا تُعرَضُ الأعمالُ على سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ونَحنُ نَعلَمُ بأنَّ أعمَالَنا تُعرَضُ على أقارِبِنا وعَشَائِرِنا من الأمواتِ، كما روى الإمام أحمد في مُسنَدِهِ عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ، فَإِنْ كَانَ خَيْراً اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا: اللَّهُمَّ لا تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا». وفي رواية: «قالوا: اللَّهُمَّ ألهِمهُم أن يَعمَلوا بِطَاعَتِكَ» رواه الطيالسي عن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
فَأعمَالُنَا تُعرَضُ على سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وكما قُلتُ: هذا الجَمعُ يُعرَضُ عَلَيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فبالله عَلَيكُم: هل هذا يُسيءُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أم يُفرِحُهُ؟
وإنَّهُ لَمِنَ العَجيبِ أن تَرى من يُنكِرُ هذهِ الاحتِفالاتِ، ورُبَّما أن يُفَسِّقَ أو يُبَدِّعَ أو يُضَلِّلَ أصحابَ هذهِ الاحتِفالاتِ، واللهُ تعالى يَقولُ: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلالٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ لا يُفْلِحُون﴾.
إنَّ تَصديرَ الأحكامِ بالتَّحليلِ أو التَّحريمِ بِدونِ عِلمٍ جَريمَةٌ كُبرَى، فَكَيفَ إذا كانَ تَصديرُ الأحكامِ بالتَّفسيقِ والتَّبديعِ والتَّضلِيلِ؟
إنَّ هذهِ الاحتِفالاتِ لا يُقالُ عن حُكمِها التَّكليفِيِّ إنَّها فَرضٌ أو واجِبٌ أو سُنَّةٌ، لأنَّ العِباداتِ تَوقِيفِيَّةٌ، بل يُقالُ عنها مُبَاحَةٌ، لا نُنكِرُ على من لا يَفعَلُها، ولا يَصِحُّ أن يُنكَرَ على فَاعِلِيها، ولو نَظَرنا إلى مُفرَدَاتِ المولِدِ لَوَجَدنَاهَا مَطلوبَةٌ مِنَّا شَرعاً.
حَقيقَةُ المَحَبَّةِ انصِهارُ المُحِبُّ بالمَحبوبِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ حَقيقَةَ المَحَبَّةِ هيَ أن يَنصَهِر المُحِبُّ بالمَحبوبِ، وأن يَكونَ هَواهُ على هَوى مَحبوبِهِ، وخُطاهُ على خُطى مَحبوبِهِ، وظَاهِرُهُ وبَاطِنَهُ على ظاهِرِهِ وبَاطِنِهِ، وأن يَترُكَ ما يُريدُ لما يُريدُ مَحبوبُهُ، وهذا ما كانَ عَلَيهِ أصحابُ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فقد كانوا كَسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الاتِّباعِ، تَخَلَّقوا بأخلاقِهِ، وتَأَدَّبوا بآدابِهِ، والتَزَمُوا سُنَّتَهُ، وهذا شَأنُ كُلِّ مُحِبٍّ صَادِقٍ في مَحَبَّتِهِ.
وإنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى قد شَهِدَ لأصحابِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بذلكَ من الأنصارِ والمُهاجِرينَ، مِمَّن أسلَمَ قَبلَ الهِجرَةِ وبَعدَها، فقالَ اللهُ تَبارَكَ وتعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾.
هذهِ الآيَةُ الكَريمَةُ وَصَفَتِ المُحِبَّ والمَحبُوبَ وَصْفاً واحِدَاً، المُحِبُّ والمَحبوبُ أشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَماءُ بَينَهُم، المُحِبُّ والمَحبوبُ رُكَّعٌ سُجَّدٌ، المُحِبُّ والمَحبوبُ يَبتَغِيَانِ فَضلاً من الله ورِضواناً، المُحِبُّ والمَحبوبُ أَثَرُ السُّجودِ في وَجهَيهِما، المُحِبُّ والمَحبوبُ وَصْفُهُما وَاحِدٌ في التَّوراةِ والإنجِيلِ، لأنَّ المُحِبَّ الصَّادِقَ يَغيبُ في مَحبوبِهِ، فإذا رَأَيتَ المُحِبَّ رَأَيتَ المَحبوبَ، وإذا رَأَيتَ المَحبوبَ رَأَيتَ المُحِبَّ من حَيثُ الصِّفاتُ والآدابُ والأخلاقُ لا من حَيثُ المرتَبَةُ والارتِفاعُ.
فالمُحِبُّ مُتَّبِعٌ بِدونِ تَوَقُّفٍ ولا تَرَدُّدٍ، كما حَصَلَ مع صَادِقِي المَحَبَّةِ لِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟».
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا.
قَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خَبَثاً، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَهُ فَلْيَنْظُرْ فِيهَا فَإِنْ رَأَى بِهَا خَبَثاً فَلْيُمِسَّهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا».
غَايَةُ المُحِبِّ مَعِيَّتُهُ معَ المَحبوبِ:
أيُّها الإخوة الكرام: مِمَّا لا شَكَّ فيه بأنَّ المُحِبَّ حَريصٌ على اللِّقاءِ معَ مَحبوبِهِ، المُحِبُّ يُريدُ أن يَجتَمِعَ معَ مَحبوبِهِ في كُلِّ العَوالِمِ، وعِندَما كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مَقامَهُ عِندَ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ بَيَّنَ للأُمَّةِ بأنَّ من أطَاعَهُ واتَّبَعَهُ كانَ مَعَهُ في الجَنَّةِ، وإلا فلا، ولو ادَّعى المَحَبَّةَ، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدخُلُونَ الجَنَّةَ إلاَّ مَنْ أبَى».
قيلَ: وَمَنْ يَأبَى يَا رَسُول الله؟
قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى» رواه الإمام البخاري عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وهذا الدُّخولُ بِمَعِيَّةِ المَحبوبِ الأعظَمِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً﴾.
﴿وَكُلا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: عَرَفنَا بأنَّ الصَّحبَ الكِرامَ رَضِيَ اللهُ عنهُم صَدَقوا في مَحَبَّةِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ومن عَلامَةِ صِدقِهِم في مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُم اتَّبَعُوهُ في أقوَالِهِم وأفعَالِهم وأحوَالِهم، فَكَانوا أهلاً لِفَضْلِ الله عزَّ وجلَّ بأن يَكونوا من أهلِ الجَنَّةِ جَميعاً، كما قال تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى﴾.
فَالصَّحبُ الكِرامِ جُملَةً وتَفصيلاً من أهلِ الجَنَّةِ بإذنِ الله تعالى بِوَعْدِ الله الذي لا يُخْلَفُ: {وَكُلا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى﴾. فَمَن أرادَ يُتَرجِمَ عن مَحَبَّتِهِ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَليُسلُكْ ما سَلَكَهُ الصَّحَابَةُ الكِرامُ رَضِيَ اللهُ عنهُم، لِيَنالَ ما نَالوا بإذنِ الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾. فإذا كُنتَ صَادِقَ المَحَبَّةِ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَكُن صَادِقاً في الاتِّباعِ لأصحابِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذينَ اتَّبَعوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِتَنالَ ما نَالوا إن شاءَ اللهُ تعالى.
من أرادَ الفَلاحَ فَعَلَيهِ باتِّباعِ المُهاجِرينَ والأنصارِ:
أيُّها الإخوةُ الأحِبَّةُ: الخَيرِيَّةُ لا تَكونُ إلا في اتِّباعِ الصَّادِقينَ المفلِحِينَ، وإنَّ الصَّادِقَ المفلِحَ لا تَعرِفُهُ إلا من خِلالِ شَهادَاتٍ تَسمَعُها عنهُ، وهل هُناكَ شَهادَةٌ أعظَمُ وأَجَلُّ وأَصْدَقُ من شَهادَةِ الله عزَّ وجلَّ؟
قَطْعاً شَهادَةُ الله هي الصِّدْقُ وهيَ الحَقُّ وهيَ الأعظَمُ، وهيَ التي لا تَقبَلُ النَّسْخَ ولا التَّبديلَ ولا التَّحويلَ، لأنَّ عِلْمَ الله تعالى لا يَلحَقُهُ استِدراكٌ ولا جَهلٌ ولا نِسيانٌ ولا خَطَأٌ.
ومَن هُمُ الذينَ شَهِدَ لَهُم رَبُّنا عزَّ وجلَّ بالصِّدْقِ والفَلاحِ؟ إنَّهُم أصحابُ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من المُهاجِرينَ والأنصارِ، تَدَبَّروا أيُّها الإخوَةُ هذهِ الآياتِ الكَريمَاتِ؛
يَقولُ اللهُ تَبارَكَ وتعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون﴾. فَهذِهِ شَهادَةٌ من الله تَبارَكَ وتعالى للمُهاجِرِينَ بأنَّهُم من الصَّادِقينَ، ومن المَعلومِ أيُّها الإخوَةُ بأنَّ الخَبَرَ لا يَقبَلُ النَّسخَ لأنَّ النَّسخَ يَكونُ في الأحكامِ لا في الأخبارِ، ولأنَّ النَّسخَ في الأخبارِ يَعني الكَذِبَ إمَّا في النَّاسِخِ وإمَّا في المَنسوخِ، وهذا مُحالٌ في إخبارِ رَبِّنا عزَّ وجلَّ.
ويَقولُ اللهُ تَبارَكَ وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾. هذا في حَقِّ الأنصارِ رَضِيَ اللهُ عنهُم، وهوَ كذلِكَ خَبَرٌ، والخَبَرُ كما قُلنا لا يَقبَلُ النَّسخَ.
فإذا أرَدتَ أن تَكونَ من الصَّادِقينَ في تَرجَمَتِكَ عن مَحَبَّةِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَاسلُكْ طَريقَ الصَّحبِ الكِرامِ رِضوانُ الله عَلَيهِم لِتَنالَ ما نَالوا بإذنِ الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾. فاتَّبِعهُم بإحسانٍ حتَّى تَكونَ في مَعِيَّتِهِم، فالخَيرِيَّةُ في اتِّباعِ الصَّادِقينَ المُفلِحينَ من أصحابِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من المُهاجِرينَ والأنصارِ.
هل أنتَ مِمَّن جاءَ من بَعدِهِم؟:
أيُّها الإخوة الكرام: إذا أرَدْنا أن نَكونَ من الصَّادِقينَ مَعَ أنفُسِنا فَلنَنظُرْ إلى قَولِهِ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾. أي: من بَعدِ المُهاجِرينَ والأنصارِ ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾.
شَأنُ المُتَّبِعينَ والصَّادِقِينَ في المَحَبَّةِ لِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أن يَتَّصِفُوا بأمرَينِ:
أولاً: الدُّعاءِ للمُهاجِرِينَ والأنصارِ الذينَ سَبَقوا الأُمَّةَ بالإيمانِ، فَعَلامَةُ المُتَّبِعِ للصَّحبِ الكِرامِ الصَّادِقينَ المُفلِحينَ هوَ الدُّعاءُ لَهُم والتَّرَضِّي عَلَيهِم والتَّرَحُّمُ، لأنَّهُ لا خَيرَ فيمَن لا يَعرِفُ فَضْلَ سَلَفِ هذهِ الأُمَّةِ على خَلَفِها، فالصَّادِقُ في المَحَبَّةِ والاتِّباعِ يَقولُ: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾.
ثانياً: الدُّعاءِ للمُعاصِرِينَ لَهُم، كما قالَ تعالى عَنهُم: ﴿وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا﴾.
فالمُتَّبِعُ والصَّادِقُ في المَحَبَّةِ لِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصٌ أن لا يَكونَ في قَلبِهِ غِلٌّ لمن عَاصَرَهُ، فَكَيفَ يَكونُ في قَلبِهِ غِلٌّ على من سَبَقَهُ بالإيمانِ؟
هذا إخبارٌ من الله تعالى عن وَصْفِ الذينَ جاؤوا من بَعدِ المُهاجِرينَ والأنصارِ، دُعاءٌ للسَّلَفِ وسَلامَةُ قَلبٍ للسَّلَفِ من الخَلَفِ، فَليَضَعْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفسَهُ في هذا الميزانِ، فَمَن شَذَّ عنهُ فَعَلَيهِ بالتَّوبَةِ والاستِغفارِ قَبلَ أن يَندَمَ ولا يَنفَعُهُ النَّدَمُ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الأحِبَّةُ: إنَّ الاجتِماعَ لإحياءِ مَولِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَيءٌ طَيِّبٌ وحَسَنٌ، وهوَ أمرٌ مُباحٌ شَرعاً بإذنِ الله تعالى، ولكنَّ المطلوبَ مِنَّا أن نُحيِيَ شَرعَهُ الشَّريفَ فِينَا، ومن جُملَةِ شَرعِهِ الشَّريفِ سَلامَةُ قُلوبِنَا على بَعضِنا البَعضِ، فَضْلاً عن سَلَفِ الأُمَّةِ.
روى الترمذي عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ، يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ».
أيُّها الإخوة الكرام: أسألُ اللهَ تعالى لي ولَكُم سَلامَةَ القَلبِ حتَّى نُحيِيَ سُنَّةَ نَبِيِّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِينَا، وحتَّى نَكونَ مَعَهُ في الجَنَّةِ. اللَّهُمَّ آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الاثنين: 12/ربيع الأول/1435هـ، الموافق: 13/كانون الثاني / 2014م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
مِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ سَخَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ المَوْجُودَاتِ، وَمِنْ مَظَاهِرِ العِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِهِ صَلَّى ... المزيد
الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد
الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ ... المزيد
لَقَدِ رَحِمَ اللهُ تعالى هَذِهِ الأُمَّةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُبَشِّرَاً وَنَذِيرَاً، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُ ... المزيد
فَعَلَى قَدْرِ التَّحَمُّلِ يَكُونُ الأَدَاءُ، وَبِحَسْبِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ المُهِمَّةُ، لِذَلِكَ عَلَّمَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِهِ العَظِيمِ مَا لَمْ يَكُنْ ... المزيد
وَجَاءَتْ تَارَةً بِمَدْحِ أَهْلِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾. وَقَالَ: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. وَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا ... المزيد