24ـ ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾

24ـ ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾

24ـ ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: نَتَعَلَّمُ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ أَنَّ الحَقَائِقَ لَا تَنْكَتِمُ أَصْلَاً، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَظْهَرَ وَلَو بَعْدَ حِينٍ.

لَقَدْ نُسِبَ إلى سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ مَا كَانَ مِنْهُ بَرِيئَاً، وَأُنِّبَ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً لَيْسَتْ قَصِيرَةً، وَكَانَ أَمْرُهُ في حَقِّ النَّاسِ خَفِيَّاً، ثُمَّ إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتعالى دَفَعَ عَنْهُ التُّهْمَةَ، وَرَفَعَ عَنْهُ المَظَنَّةَ، وَأَنْطَقَ عُذَّالَهُ، وَأَظْهَرَ حَالَهُ، فَقَالَتِ النِّسْوَةُ في المَلَإِ وَأَمَامَ المَلِكِ: ﴿حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ وَقَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ: ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾. وَهِيَ التي قَالَتْ بِدَايَةً: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءَاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؟

نَعَمْ إِنَّهَا قُدْرَةُ اللهِ تعالى جَعَلَتِ النِّسْوَةَ مَعَ امْرَأَةِ العَزِيزِ يَقُلْنَ كَلِمَةَ الحَقِّ رَغْمَاً عَنْ أُنُوفِهِنَّ، كَأَنَّهُنَّ في أَرْضِ المَحْشَرِ حَيْثُ تَنْطِقُ الجُلُودُ وَالأَيْدِي وَالأَرْجَلُ بِدُونِ اخْتِيَارٍ مِنْهُمْ.

لَقَدْ أَنْصَفَتِ النِّسَاءُ وَامْرَأَةُ العَزِيزِ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَلَمْ يُدَافِعْنَ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ، فَسُبْحَانَ الذي يَمْلِكُ القُلُوبَ وَالأَلْسُنَ وَيَجْعَلُهَا تَشْهَدُ عَلَى أَصْحَابِهَا.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ طَبِيعَةِ النِّسَاءِ أَنَّهُنَّ يَتَنَكَّرْنَ عَلَى أَشْيَاءَ تَافِهَةٍ، حَتَّى لَا يَلْحَقَهُنَّ ضَرَرٌ، فَكَيْفَ يَعْتَرِفْنَ بِجُرْمٍ كَبِيرٍ؟ إِنَّهُ اللهُ تعالى الذي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ.

قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: لِمَاذَا لَم تَعْتَرِفْ النِّسْوَةُ مِنَ البِدَايَةِ، وَخَاصَّةً امْرَأَةَ العَزِيزِ التي أَلْفَتْ سَيِّدَهَا لَدَا البَابِ؟ لِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ وَالقَائِلُ: ﴿وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: قَوْلُهُ تعالى: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾. قَالَ المُفَسِّرُونَ: هَذَا الكَلَامُ مَنْسُوبٌ إلى امْرَأَةِ العَزِيزِ، فَهِيَ تُعْلِنُ بَرَاءَةَ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَأَنَّهَا لَمْ تَنْتَهِزْ فُرْصَةَ غِيَابِهِ في السِّجْنِ وَتَنْتَقِمْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لِمُرَاوَدَتِهَا، وَلَمْ تَنْسِجْ لَهُ أَثْنَاءَ غِيَابِهِ المُؤَامَرَاتِ وَالدَّسَائِسَ وَالمَكَائِدَ، وَكَأَنَّهَا بَعْدَ أَنْ هَدَأَتْ ثَوْرَتُهَا وَعَادَتْ إلى رُشْدِهَا أَرَادَتْ أَنْ تَسْتُرَ السَّيِّئَةَ بِالحَسَنَةِ.

ثُمَّ أَعْقَبَتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهَا: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾. فَهِيَ أَقَرَّتْ وَاعْتَرَفَتْ بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتعالى لَا يُنْفِذُ كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَلَا يُوَصِّلُهُ إلى غَايَتِهِ، وَلَا يُوَفِّقُ تَدْبِيرَ الخَائِنِينَ.

ثُمَّ قَالَتْ: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾. فَكَأَنَّهَا تَقُولُ: هَا أَنَا أُقِرُّ وَأَعْتَرِفُ أَمَامَ زَوْجِيَ المَلِكِ وَأَمَامَ حَاشِيَتِهِ بِالحَقِيقَةِ وَأَنِّي لَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَهُنَاكَ مِنَ العُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. هُوَ مِنْ كَلَامِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ.

فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ لِيَعْلَمَ رَبِّي، وَلِيَعْلَمَ عَزِيزُ مِصْرَ، أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، لِأَنَّ الخَائِنَ خَائِنٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَخُونَ النَّاسَ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ وَصْفِ الصَّالِحِينَ، فَكَيْفَ بِالأَنْبِيَاءِ؟ وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾. يَعْنِي: لَا يُوَفِّقُ تَدْبِيرَ الخَائِنِينَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ لِأَنَّهُ أَلْجَمَ شَهْوَتَهُ، وَلَوْلَا أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ، وَلَوْلَا رَحْمَةُ اللهِ وَلُطْفُهُ بِهِ لَصَبَا إِلَيْهِنَّ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: في الخِتَامِ، لِنَنْظُرْ إلى خُلُقِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، أَنَّهُ مَا قَابَلَ الإِسَاءَةَ بِالإِسَاءَةِ، وَلَمْ يَدْعُ اللهَ تعالى عَلَى النِّسْوَةِ وَامْرَأَةِ العَزِيزِ التي كَانَتْ سَبَبَاً في هَذِهِ الفِتْنَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُنَّ بِسُوءٍ، وَهَذَا مِنَ الصَّبْرِ الجَمِيلِ.

وَلَمَّا قَالَ لِرَسُولِ المَلِكِ: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾. مَا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُشَهِّرَ بِهِنَّ، بَلْ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُثْبِتَ بَرَاءَتَهُ بِإِقْرَارِهِنَّ.

اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِنْ جَمِيعِ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 28/ ربيع الأول /1441هـ، الموافق: 25/ تشرين الثاني / 2019م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

15-01-2024 457 مشاهدة
85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد

 15-01-2024
 
 457
31-07-2023 482 مشاهدة
84ـ عروة بن الزبير رضي الله عنه

مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد

 31-07-2023
 
 482
08-05-2023 675 مشاهدة
83ـ شريح القاضي

ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد

 08-05-2023
 
 675
19-04-2023 514 مشاهدة
82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد

 19-04-2023
 
 514
14-04-2023 390 مشاهدة
81ـ أتحلف من أجل درهمين

وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد

 14-04-2023
 
 390
11-04-2023 488 مشاهدة
80ـ حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته

يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد

 11-04-2023
 
 488

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3168
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415635174
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :