51ـ ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾

51ـ ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾

51ـ ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنَ العِبَرِ وَالفَوَائِدِ التي نَسْتَفِيدُهَا مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: كَيْفَ يَكُونُ احْتِرَامُ الوَالِدَيْنِ إِذَا قَدِمَا عَلَى وَلَدِهِمَا.

قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ﴾. هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: اسْتَجَابَ إِخْوَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْلِهِ لَهُمْ: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾. فَأَتَوْا بِأَهْلِهِمْ أَجْمَعِينَ، حَيْثُ رَحَلُوا جَمِيعًا مِنْ بِلَادِهِمْ إلى مِصْرَ، وَمَعَهُمْ أَبُوهُمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا وَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، ضَمَّ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَعَانَقَهُمَا عِنَاقًا حَارًّا، وَقَالَ للجَمِيعِ: ادْخُلُوا بِلَادَ مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مِنَ الجُوعِ وَالخَوْفِ؛ وَالمُرَادُ بِالدُّخُولِ الاسْتِقْرَارُ فِيهَا، وَالسَّكَنُ في رُبُوعِهَا.

سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَقْبَلَ وَالِدَيْهِ وَإِخْوَتَهُ خَارِجَ البِلَادِ، وَلَمْ يَجْلِسْ عَلَى كُرْسِيِّ المُلْكِ حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْهِ، خَرَجَ خَارِجَ البَلَدِ لِاسْتِقْبَالِهِمْ مُرَحِّبًا بِهِمْ، فَالمَنْصِبُ لَمْ يُغَيِّرْ مِنْ طَبِيعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

كَمْ وَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ وَبِكُلِّ أَسَفٍ في هَذِهِ الآوِنَةِ مِمَّنْ غَيَّرَتِ المَكَانَةُ نُفُوسَهُمْ، فَتَنَكَّرُوا لِأَهْلِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ، وَرُبَّمَا تَنَكَّرُوا لِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ.

فَهَذَا سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعَلِّمُنَا أَنَّ المَنَاصِبَ لَا تُغَيِّرُ الرِّجَالَ.

﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَمْلِكُ شَطْرَ الحُسْنِ وَالجَمَالِ، وَكَانَ يَمْلِكُ البِرَّ كُلَّهُ، وَالتَّوَاضُعَ كُلَّهُ، وَالصَّفْحَ كُلَّهُ، فَهُوَ رَائِدٌ في بِرِّ أَبَوَيْهِ، وَبِرِّ إِخْوَتِهِ.

قَالَ تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾. لَمْ يَكْتَفِ بِأَنَّهُ اسْتَقْبَلَهُمَا خَارِجَ مِصْرَ، بَلْ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ، عَلَى سَرِيرِ المُلْكِ، وَلَمْ يُجْلِسْهِمَا عَلَى أَدْنَى مِنْهُ، رَفَعَ أَبَوَيْهِ وَغَلَّبَ الذُّكُورِيَّةَ، وَهُمَا عَزِيزَانِ فَوْقَ العَزِيزِ، وَمَلِكَانِ فَوْقَ المَلِكِ.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ سُجُودَ تَحِيَّةٍ وَاحْتِرَامٍ وَتَقْدِيرٍ، لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ ـ مَعَاذَ اللهِ تعالى ـ وَكَانَ مِثْلُ هَذَا السُّجُودِ جَائِزًا في شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، ثُمَّ نُسِخَ في شَرِيعَتِنَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عَظِيمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا» رواه الحاكم عَنْ مُعَاذِ بْنٍ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ أَشَارَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلى الرُّؤْيَا التي رَآهَا بِدَايَةً عِنْدَمَا قَالَ لِأَبِيهِ: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾.

ثُمَّ بَدَأَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُصُّ عَلَى وَالِدِهِ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَصَابَهُ مِنْ شِدَّةٍ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ النِّعَمَ التي أَعْقَبَتِ النِّقَمَ، ذَكَرَ خُرُوجَهُ مِنَ السِّجْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ دُخُولَهُ، فَقَالَ: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾.

وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذْ ذَكَرَ النِّعَمَ التي جَاءَتْ بَعْدَ النِّقَمِ، لَقَدْ ذَكَرَ الرُّؤْيَا، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهَا، مِنْ إِلْقَائِهِ في الجُبِّ، لِأَنَّهُ قَدْ وَعَدَ إِخْوَتَهُ في اللِّقَاءِ الأَخِيرِ أَنَّهُ لَنْ يُعَيِّرَهُمْ وَلَنْ يُكَدِّرَ خَاطِرَهُمْ عِنْدَمَا قَالَ لَهُمْ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾.

كَمَا ذَكَرَ خُرُوجَهُ مِنَ السِّجْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ دُخُولَهُ.

ثُمَّ تَابَعَ ذِكْرَ نِعْمَةِ اللهِ تعالى عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ وَإِخْوَتِهِ، فَقَالَ: ﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾ مِنْ بَدْوِ الصَّحْرَاءِ، حَيْثُ لَأْوَاؤُهَا وَشَدَائِدُهَا وَقَيْظُهَا وَرِيحُهَا السَّاخِنَةُ، إلى رِيفِ مِصْرَ وَخِصَبِهَا.

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَمَّلَ الشَّيْطَانَ الجَرِيمَةَ كُلَّهَا، فَهُوَ أَهْلٌ لَهَا ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾. فَقَالَ: ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾. لَمْ يَقُلْ: بَعْدَ أَنْ ظَلَمَنِي إِخْوَتِي، وَهَذَا الأَمْرُ لَا يُتْقِنُهُ إِلَّا أَصْحَابُ النُّفُوسِ الأَبِيَّةِ.

قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ فَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، فَهُوَ الذي يُقَدِّرُ، وَهُوَ الذي يَعْلَمُ الخَفَايَا وَالنَّوَايَا.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: كَمْ نَحْنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى مِثْلِ هَذِهِ الأَخْلَاقِ السَّامِيَةِ الرَّاقِيَةِ.

فَتَشَبَّهُوا إِنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ   ***   إِنَّ التَّشَبُّهَ بِالكِرَامِ فَلَاحُ

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

تاريخ الكلمة

**    **    **

الاثنين: 3/ رجب /1442هـ، الموافق: 15/ شباط / 2021م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ﴾

15-01-2024 457 مشاهدة
85ـ وقفات مع سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

الحَدِيثُ عَنِ الخَلِيفَةِ التَّابِعِيِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ ذُو شُجُونٍ، فَأَنْتَ لَا تَكَادُ تُلِمُّ بِصُورَةٍ مِنْ صُوَرِ حَيَاتِهِ الفَذَّةِ حَتَّى تُسْلِمَكَ إِلى أُخْرَى أَكْثرَ بَهَاءً، وَأَغْنَى رَوَاءً، وَأَبْعَدَ تَأْثِيرًا. ... المزيد

 15-01-2024
 
 457
31-07-2023 482 مشاهدة
84ـ عروة بن الزبير رضي الله عنه

مَا كَادَتْ شَمْسُ الأَصِيلِ تُلَمْلِمُ خُيُوطَهَا الذَّهَبِيَّةَ عَنْ بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ، وَتَأْذَنُ للنَّسَمَاتِ النَّدِيَّةِ بِأَنْ تَتَرَدَّدَ في رِحَابِهِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى شَرَعَ الطَّائِفُونَ بِالبَيْتِ مِنْ بَقيةِ صَحَابَةِ ... المزيد

 31-07-2023
 
 482
08-05-2023 675 مشاهدة
83ـ شريح القاضي

ابْتَاعَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَرَسًا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الأَعْرَابِ وَنَقَدَهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ امْتَطَى صَهْوَتَهُ وَمَضَى بِهِ. لَكِنَّهُ مَا كَادَ يَبْتَعِدُ بِالفَرَسِ طَوِيلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيهِ ... المزيد

 08-05-2023
 
 675
19-04-2023 514 مشاهدة
82ـ امرؤ سريرته كعلانيته (الحسن البصري)

حَدَّثَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ قَالَ: لَقِيتُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ في الحِيْرَةِ فَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَنْ حَسَنِ البَصْرَةِ، فَإِنَّي أَظُنُّ أَنَّكَ تَعْرِفُ مِنْ أَمْرِهِ مَا لَا يَعْرِفُ سِوَاكَ. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، ... المزيد

 19-04-2023
 
 514
14-04-2023 390 مشاهدة
81ـ أتحلف من أجل درهمين

وُلِدَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُبِّيَ في بَيْتٍ يَتَضَوَّعُ الوَرَعَ وَالتُّقَى (يَنْتَشِرُ انْتِشَارَ المِسْكِ) مِنْ كُلِّ رُكْنٍ مِنْ ... المزيد

 14-04-2023
 
 390
11-04-2023 488 مشاهدة
80ـ حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته

يَرْوِي قَاضِي المُوصِلِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الغَسَّانِيُّ فَيَقُولُ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَطُوفُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي أَسْوَاقِ حِمْصَ لِيَتَفَقَّدَ البَاعَةَ وَيَتَعَرَّفَ عَلَى الأَسْعَارِ، إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ عَلَيْهِ ... المزيد

 11-04-2023
 
 488

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3168
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415634985
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :