118ـ كلمة شهر ذي الحجة 1437: التجارة الرابحة والفاسدة

118ـ كلمة شهر ذي الحجة 1437: التجارة الرابحة والفاسدة

.

118ـ كلمة شهر ذي الحجة 1437: التجارة الرابحة والفاسدة

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ المُسَافِرَ إلى رَبِّهِ جَلَّ جَلَالُهُ يُهَيِّئُ الزَّادَ الذي يُوصِلُهُ إلى رِضَاءِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وإلى جَنَّاتِهِ، وَأَهَمُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ الزُّهْدُ فِيهَا، وَالانْصِرَافُ عَنْهَا، وَعَدَمُ الرَّغْبَةِ فِيهَا، طَلَبَاً لِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا.

الدُّنْيَا في مِيزَانِ القُرْآنِ العَظِيمِ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ المُسَافِرَ إلى رَبِّهِ جَلَّ جَلَالُهُ يَعْلَمُ بِأَنَّ اللهَ تعالى قَدْ ذَمَّ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةَ فِيهَا، وَمَدَحَ الزُّهْدَ فِيهَا وَالتَّقَلُّلَ مِنْهَا، فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾. وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾.

وَذَمَّ أَهْلَ الدُّنْيَا الذينَ تَشَبَّثُوا فِيهَا وَتَرَكُوا الآخِرَةَ، وَآثَرُوا مَا يَفْنَى على مَا يَبْقَى، قَالَ تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ النَّاظِرَ وَالمُتَفَحِّصَ لِأَحْوَالِ الأُمَّةِ اليَوْمَ يَجِدُ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّهِ وَمَبْلَغَ عِلْمِهِ، يَعْدُو وَرَاءَهَا وَيَلْهَثُ في سَبِيلِ تَحْصِيلِهَا، كُلَّمَا نَالَ مِنْهَا شَيْئَاً ازْدَادَ طَلَبُهُ لَهَا وَجَرْيُهُ وَرَاءَهَا عَلَّهُ يَنَالُ مِنْهَا أَشْيَاءَ أُخْرَى.

فَالغَافِلُ عَنْ حَقِيقَةِ السَّفَرِ مِنَ الدُّنْيَا إلى اللهِ تعالى يَنْشَغِلُ بِالدُّنْيَا وَيُؤَجِّلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ إلى أَنْ يَفْرُغَ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَفْرُغَ، لِأَنَّ آمَالَ الدُّنْيَا لَا تَنْتَهِي، وَلَا يَقْضِي أَحَدٌ وَطْرَهُ مِنْهَا أَبَدَاً.

فَالعَاقِلُ هُوَ الذي يَجْعَلُ الهُمُومَ هَمَّاً وَاحِدَاً، وَهُوَ إِرْضَاءُ اللهِ تَبَارَكَ وتعالى.

التَّجَارَةُ الرَّابِحَةُ وَالفَاسِدَةُ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَو تَفَقَّدْنَا أَحْوَالَ أَغلَبِ النَّاسِ اليَوْمَ فَإِنَّا نَجِدُ أَنَّ تِجَارَتَهم في الآخِرَةِ كَاسِدَةٌ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا إلا أَقَلُّ القَلِيلِ، مَعَ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَثَّنَا على التِّجَارَةِ التي لَا تَبُورُ، قَالَ تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْـمُتَنَافِسُونَ﴾. هَذَا تَنَافُسٌ أَمَرَنَا اللهُ تعالى بِهِ، وَحَذَّرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّنَافُسِ في هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَنَافَسُوا (يَعْنِي: في أَعْرَاضِ الدُّنْيَا) وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانَاً» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحَقِيقَةُ البَاقِيَةُ وَالقَائِمَةُ هِيَ أَنَّ القَلْبَ لَا يَتَّسِعُ أَبَدَاً لِحُبِّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مَعَاً، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» رواه الحاكم عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ ضُرَّتَانِ، إِذَا أَرْضَيْتَ إِحْدَاهُمَا أَسْخَطْتَ الأُخْرَى، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ سَيُرْضِي الاثْنَتَيْنِ فَقَدْ ظَنَّ أَمْرَاً لَا يَقَعُ أَبَدَاً، وَلَا يَكُونُ على الإِطْلَاقِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:

أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَّقِ اللهَ تعالى، وَلْنُسَارِعْ إلى مَرْضَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ بِاغْتِنَامِ الحَيَاةِ قَبْلَ فَنَائِهَا، وَاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الأَعْمَالِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، وَاغْتِنَامِ النِّعَمِ قَبْلَ زَوَالِهَا، وَاغْتِنَامِ العَافِيَةِ قَبْلَ تَحَوُّلِهَا، وَاغْتِنَامِ يُسْرِ الأُمُورِ قَبْلَ عُسْرِهَا، وَهَذِهِ هِيَ وَصِيَّةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنَاً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْـمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنَاً وَيُمْسِي كَافِرَاً، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنَاً وَيُصْبِحُ كَافِرَاً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعَاً، هَل تَنْتَظِرُونَ إلَّا فَقْرَاً مُنْسِيَاً، أَوْ غِنَىً مُطْغِيَاً، أَوْ مَرَضَاً مُفسِدَاً، أَوْ هَرَمَاً مُفَنِّداً، أَوْ مَوْتَاً مُجْهِزَاً، أَو الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وأَمَرُّ؟».

بَادِرُوا بالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَخَاصَّةً في أَيَّامِ الهَرْجِ، أَيَّامِ القَتْلِ، أَيَامِ الفَسَادِ، أَيَّامِ الفِتَنِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» رواه الإمام مسلم عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

نَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا أَنْ تُخْرجَ مِنْ قُلُوبِنَا حُبَّ الدُّنْيَا، لِأَنَّ حُبَّهَا أَتْعَبَنَا، وَأَوْقَعَ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ في الكَبَائِرِ مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِهَا، وَلَا أَدَلَّ على ذَلِكَ مِنْ وَاقِعِنَا المَرِيرِ الذي تَعِيشُهُ بِلَادُ الشَّامِ في هَذِهِ الآوِنَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.

**     **     **

تاريخ الكلمة:

السبت: 1/ ذو الحجة /1437هـ، الموافق: 3/أيلول / 2016م

 2016-09-05
 3012
الشيخ أحمد شريف النعسان
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  كلمة الشهر

24-06-2025 118 مشاهدة
227ـ أجلنا محتوم

وَدَّعْنَا عَامًا هِجْرِيًّا مَضَى مِنْ عُمُرِنَا وَاسْتَقْبَلْنَا عَامًا هِجْرِيًّا جَدِيدًا، لَا نَدْرِي أَيَنْتَهِي فِيهِ أَجَلُنَا أَمْ لَا. عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ الْمَوْتَ حَتْمٌ لَازِمٌ لَا مَنَاصَ مِنْهُ لِكُلِّ ... المزيد

 24-06-2025
 
 118
27-05-2025 192 مشاهدة
226ـ هل من مغتنم؟

هَذِهِ العَشْرُ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَبْوَابُ التَّنَافُسِ فِيهَا قَدْ فُتِحَتْ، فَهَلْ مِنْ مُنَافِسٍ فِي الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى؟ فَالأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الأَيَّامِ ... المزيد

 27-05-2025
 
 192
30-04-2025 225 مشاهدة
225ـ لا تحزنوا فالله معكم

الإِيمَانُ الحَقِيقِيُّ يُخْرِجُ العَبْدَ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالمِحَنِ وَالكُرُوبِ، وَيَجْعَلُهُ فِي حَالَةِ ارْتِبَاطٍ بِاللهِ تَعَالَى وَاليَوْمِ الآخِرِ، الإِيمَانُ هُوَ دِرْعُ وَسِلَاحُ وَمَنَارُ المُؤْمِنِ وَقْتَ الشَّدَائِدِ القَاسِيَةِ، ... المزيد

 30-04-2025
 
 225
06-04-2025 343 مشاهدة
224ـ ما أجمل الأتقياء وأكرمهم

مَا أَجْمَلَ الأَتْقِيَاءَ وَأَكْرَمَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، تَآلَفَتْ قُلُوبُهُمْ فِي اللهِ تَعَالَى وَعَلَى طَاعَتِهِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ ... المزيد

 06-04-2025
 
 343
04-03-2025 405 مشاهدة
223ـ اعتبروا الناس بأعمالهم

مَنْ حُجِبَ عَنِ العِلْمِ عَذَّبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى جَهْلِهِ، وَأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ العِلْمُ فَأَدْبَرَ عَنْهُ، وَسَاقَ اللهُ إِلَيْهِ الهُدَى فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ ... المزيد

 04-03-2025
 
 405
08-01-2025 1008 مشاهدة
221ـ نموذجان من المسلمين اليوم

الإِنْسَانُ خُلِقَ لِلْجَنَّةِ، وَالجَنَّةُ خُلِقَتْ لَهُ، وَالجَنَّةُ هِيَ سِلْعَةٌ، وَسِلْعَةُ اللهِ غَالِيَةٌ، وَثَمَنُهَا فِي الدُّنْيَا؛ فَمَا هُوَ ثَمَنُ الجَنَّةِ؟ ثَمَنُ الجَنَّةِ هُوَ العِبَادَةُ للهِ تعالى، وَالإِسْلَامُ عَقَائِدُ ... المزيد

 08-01-2025
 
 1008

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3235
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424668948
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :