4ـ الآخرة حق ثابت (3)

4ـ الآخرة حق ثابت (3)

الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

4ـ الآخرة حق ثابت (3)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانُ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا) وَهُوَ يُثْبِتُ أَحَقِّيَّةَ الآخِرَةِ:

وَذَلِكَ المَطْوِيُّ تَحْتَ ﴿ثُمَّ﴾ هُوَ الذي ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ وتعالى بِقَوْلِهِ: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدَىً﴾. أَيْ: هَمَلَاً بِلَا تَكْلِيفٍ أَو نَهْيٍ؛ يَكُونُ فِيهِ صَلَاحُهُ وَسَعَادَتُهُ.

وَهُوَ المَذْكُورُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعَاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾. أَيْ: بَعْضُ أَبْنَائِكُمُ الذينَ هُمْ يَلِدُونَ مِنْكُمَا يَا آدَمُ وَحَوَّاءُ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.

﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً﴾. خِطَابٌ لِبَنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الذينَ هُمْ في صُلْبِ آدَمَ وَسَيَلِدُهُمْ، فَأَكَّدَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَتَعَهَّدُهُمْ بِالهُدَى فَوْرَ هُبُوطِ البَشَرِيَّةِ إلى عَالَمِ الأَرْضِ ـ أَيْ: بِأَنْ يُنْزِلَ الشَّرَائِعَ وَفِيهَا البَيَانَاتُ الثَّابِتَةُ بِالبَيِّنَاتِ، وَالإِرْشَادَاتُ إلى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ وَالنَّجَاحُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ﴾ ـ أَيْ: في الدُّنْيَا ـ ﴿وَلَا يَشْقَى﴾ ـ أَيْ: في الآخِرَةِ ـ ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ ـ أَيْ: تَذْكِيرِي، وَهَدْيِي وَبَيَانِي ـ ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكَاً﴾ ـ أَيْ: ضَيِّقَةً شَدِيدَةً ـ ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾. الآيَةَ.

﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ أَيْ: فَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِ الشَّرِيعَةَ، وَبَيَّنَا لَهُ مَا يَضُرُّهُ وَمَا يَنْفَعُهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهُنَاكَ قِسْمٌ كَبِيرٌ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ أَعْرَضَ عَنْ تِلْكَ الشَّرَائِعِ، وَرَدَّهَا، وَلَمْ يَتَّصِفْ بِالفَضَائِلِ وَالكَمَالَاتِ التي جَاءَتْ بِهَا تِلْكَ الشَّرَائِعُ؛ فَرَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، لِأَنَّهُ هَوَ مَنْ سَفَّلَ نَفْسَهُ، وَنَزَلَ بِهَا إلى مُسْتَوَى البَهِيمَةِ؛ وَلَكِنْ هُنَاكَ قِسْمٌ آخَرُ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ آمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ تعالى، وَعَمِلُوا بِمُوجَبِ شَرِيعَةِ اللهِ تعالى، فَارْتَقَوْا في الدَّرَجَاتِ العُلَا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الذينَ قَالَ فِيهِمْ سُبْحَانَهُ: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أَيْ: دَائِمٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا القِسْمَ عَلَى طَرِيقِ الاسْتِثْنَاءِ لِقِلَّتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِكَثْرَةِ الذينَ كَفَرُوا.

قَالَ تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ﴾. الآيَةَ.

ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ المُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا الجَزَاءُ المُرَتَّبُ عَلَى الحِسَابِ.

قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾. أَيْ: جَزَاءَهُمْ. وَقَالَ تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾. أَيْ: هُوَ سُبْحَانَهُ المَلِكُ وَالمَالِكُ لِيَوْمِ الجَزَاءِ، وَهُوَ المُحَاسِبُ لَا غَيْرُهُ جَلَّ وَعَلَا.

وَفي الحَدِيثِ الحَسَنِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَنَا المَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ» أَيْ: المُحَاسِبُ وَالمُجَازِي.

﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾.

هَذَا خِطَابٌ للإِنْسَانِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، وَالمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مُكَذِّبَاً بِالدِّينِ ـ أَيْ: الجَزَاءُ وَالحِسَابُ مِنْ بَعْدِ هَذَا البَيَانِ وَالبُرْهَانِ، وَأَنَّ اللهَ تعالى قَدْ خَلَقَكَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، فَصَوَّرَكَ وَعَدَلَكَ، ثُمَّ تَعَهَّدَكَ بِالشَّرِيعَةِ التي فِيهَا صَلَاحُكَ وَسَعَادَتُكَ، وَلَمْ يَتْرُكْكَ سُدَىً، بَلْ إِنَّهُ بَيَّنَ لَكَ مَا يَنْفَعُكَ وَمَا يَضُرُّكَ، فَمَا لَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ ذَهَبْتَ تُنْكِرُ الحَشْرَ وَالجَزَاءَ؟!

فَمِنْ نَاحِيَةِ القُدْرَةِ هُوَ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يُعِيدَكَ بَعْدَ مَوْتِكَ، وَيُنْشِئَكَ خَلْقَاً جَدِيدَاً، فَإِنَّهُ لَو عَجِزَ عَنِ الإِعَادَةِ لَأَعْجَزَهُ وَأَعْيَاهُ خَلْقُكَ الأَوَّلُ، ـ كَلَّا بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ﴾ ـ أَيْ: بَلْ لَمْ نَعْجِزْ ـ ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾.

وَمِنْ نَاحِيَةِ الحِكْمَةِ فَإِنَّ حِكْمَةَ أَحْكَمِ الحَاكِمِينَ تَقْتَضِي أَنْ يُعِيدَ الإِنْسَانَ مَرَّةً ثَانِيَةً للجَزَاءِ وَالحِسَابِ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾. وَهَذَا أَمْرٌ مُبْرَمٌ وَمُحْكَمٌ لَا مَحَالَةَ.

وَذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إلى أَنَّ الخِطَابَ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾. هُوَ خِطَابٌ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ المَعْنَى: وَمَنِ الذي يُكَذِّبُكَ بِالجَزَاءِ يَا رَسُولَ اللهِ بَعْدَ هَذَا البَيَانِ، وَالحُجَّةِ وَالتِّبْيَانِ، إلى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ: فَمَا أَحَدٌ عِنْدَهُ عَقْلٌ وَرَوِيَّةٌ يُكَذِّبُكَ بِالجَزَاءِ؛ وَقَدْ جِئْتَ بِالأَدِلَّةِ القَاطِعَةِ التي تُثْبِتُ ذَلِكَ حَقَّاً.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 8/ ذو القعدة /1440هـ، الموافق: 11/تموز / 2019م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

19-09-2024 406 مشاهدة
64ـ عما ورد من نسبة الذنوب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام (2)

وَأَمَّا مَا وَرَدَ في حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنِ اعْتِذَارِ الخَلِيلِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسَبَبِ الكَذَبَاتِ، فَإِنَّمَا هِيَ كَذَبَاتٌ صُورَةً لَا حَقِيقَةً، لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ المَعَارِيضِ، وَقَدْ جَاءَ ... المزيد

 19-09-2024
 
 406
10-09-2024 403 مشاهدة
63ـ عما ورد من نسبة الذنوب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام

يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا): الوَجْهُ الثَّانِي: في الجَوَابِ عَمَّا وَرَدَ مِنْ نِسْبَةِ الذُّنُوبِ للأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ ... المزيد

 10-09-2024
 
 403
15-08-2024 327 مشاهدة
62ـ حول أحاديث الشفاعة

أَوَّلًا: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فِيهِ إِعْلَانٌ بِمَقَامِ سِيَادَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإِعْلَامٌ لِجَمِيعِ ... المزيد

 15-08-2024
 
 327
25-07-2024 460 مشاهدة
61ـ الشفاعة وأنواعها

الشَّفَاعَةُ كَمَا قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: هِيَ انْضِمَامُ الأَدْنَى ـ أَيْ: لُجُوءُهُ وَقَصْدُهُ ـ إلى الأَعْلَى، لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مَا يَرُومُهُ، أَيْ: في جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنِ المَشْفُوعِ بِهِ. وَالشَّفَاعَةُ ... المزيد

 25-07-2024
 
 460
11-01-2024 627 مشاهدة
60ـ يستقبل أمته على الحوض

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ أُمَّتَهُ عَلَى الحَوْضِ وَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ: ... المزيد

 11-01-2024
 
 627
29-12-2023 627 مشاهدة
59ـ ينتظر الواردين من أمته

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ، ... المزيد

 29-12-2023
 
 627

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5698
المقالات 3216
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 423358701
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :